تفاصيل المدونة
النزوح في أوقات الأزمات

تهميش المُهمشين: صرخات المُهمَلين الصامتة
هذه المخيمات، التي كانت يومًا ملاذًا آمنًا لهؤلاء، باتت اليوم تعاني من ظروف مزرية من جرّاء الاكتظاظ والبطالة والفقر، إضافةً إلى سوء السكن والحرمان من العدالة.
في حين يرزح لبنان تحت وطأة أزمة اقتصادية لا تنتهي، فإنّ ظروف أولئك الذين يعيشون خلف جدران المخيم وفي هذا المجتمع المُضيف لن تكون أفضل حال. ومع غرق المُهمَّشين أكثر في الفقر وغياهب النسيان الاجتماعي، تنشأ طبقة فقيرة جديدة في صفوف اللاجئين الفلسطينيين.
“لقد تركنا منزلنا وعشنا هنا طوال العامَين الماضيَين”، تقول هايا، وهي أم شابة لطفلَين. تخبرنا عن أوضاع منزلها العائلي، المُجرَّد من الأثاث والذي يحتوي على ثلاث سجّادات قديمة، وحسب، تغطّي بها أرضية خرسانية عارية. تدعونا هايا للجلوس، حيث لا شاي حلو لديها لتقدّمه لنا، وكيف تفعل ذلك وهي لم تذق الشاي منذ أكثر من أسبوع، ولا السكّر لأشهر. ولكنّها تستعيض عمّا تفتقر إليه من مشروبات بحرارة ترحيبها.
هايا متزوجة من رجل سوري الجنسية، وهي تعتبر نفسها محظوظة لأنّها وجدت هذا المنزل المهجور على أطراف مخيم نهر البارد. اضطُرّت وعائلتها إلى تدبير أمورهم بأنفسهم، وبما أنّهم لا يدفعون بدل إيجارٍ للمنزل، وهو أمر منطقي مع عدم قدرتهم على تحمّل أي رسوم، تشير هايا إلى أن “ما من ماء ولا كهرباء في منزلنا، ونحن نطبخ أي طعام يمكننا شراؤه على نار نشعلها خارجًا”.
وبما أنّ الأب سوري فإنّ الأطفال هم أيضًا من الجنسية السورية. وتُعلّق هايا على هذا الموضوع قائلةً: “لقد سجّلونا في أسفل أي قائمةٍ تتعلّق بتوزيع المساعدات في المخيم. وبينما تستمر الحياة من حولنا، أجد نفسي متروكةً لأجلس وأفكّر قلقةً ممّا سيحدث لعائلتي.”
ومع أنّ هايا تفضّل البقاء في هذا المكان الذي تعتبره مصدر أمانٍ نسبيٍّ، مقارنةً بظروف الآخرين، من الذين أجبرتهم الأوضاع المعيشيّة السيّئة على الانتقال إلى داخل البلدات والمدن اللبنانيّة.
ريحان محمد ابنة الـ38 عامًا، هي إحدى هؤلاء المُهمَّشين أيضًا. ومع وجه ترتسم عليه سنوات الفقر والنضال الأبدي، انتقلت هذه الأم الفلسطينية التي ترعى أربعة أطفال مؤخرًا من مخيم عين الحلوة، لتعيش من دون دفع إيجار، في منزلٍ مؤلّفٍ من غرفة واحدة في قلب أسواق صيدا القديمة.
يعود بناء منزلها لأكثر من قرن ونصف القرن، باب مدخله خشبيٍّ ضيق وثقيل. يسيل على الأرض دلف من المياه الجارية، والصمت يسود الغرفة التي يضيئها نور مصباح واحدٍ خافت، بفضل الكهرباء التي يمدّهم بها صاحب متجر محلّي سخي قام بتمرير كابل عبر سقف منزل ريحان.
تستهل حديثها قائلةً: “زوجي في السجن، ومع عدم قدرتي على تأمين المال لإطعام بناتي، قرّرت الانتقال إلى هنا، لأنّ اللبنانيين الذين يزورون السوق هم أكثر كرمًا من أيّ شخص يعيش في المخيم”. وتعيش ريحان وأطفالها حاليًّا من المساعدات الغذائية التي يقدّمها المارّة.
وتضيف: “لا أتلقى أيّ دعم من المنظمات غير الحكومية أو الوكالات الأخرى، لذا أجلس خارج باب منزلي طوال اليوم معتمدةً فقط على لطف الناس”. ومع ذلك، تبتسم ريحان وتقول: “الحياة هنا أفضل منها في المخيم”.
ينظر آخرون إلى الحياة بشكلٍ مختلف.
يعيش قاسم ابن الـ28 ربيعًا، على تخوم مخيم عين الحلوة. لقد وُلد في هذا الحيّ وترعرع فيه، ولكنّه لم يواجه يومًا ما ضائقة كهذه. فقد وجد نفسه عاطلًا عن العمل خلال العام الماضي، مُجبرًا على العودة للعيش مع والدَيه مع طفلَين صغيرَين يحتاجان إلى المأكل والملبس.
وبالرغم من أنّه متزوج من لبنانيّة، إلّا أن ابنتيه لا تستفيدان من أي دعمٍ يُخصَّص عادةً لمواطن مضيف.
يدفع قاسم بنفسه إلى مزيدٍ من الديون محاولًا التخفيف من وطأة هذه الظروف اليائسة التي تعاني منها عائلته. وهو يعترف بأنّه سعى جاهدًا إلى “بيع كِلية” ولكنّه لم يستطع إيجاد آلية آمنة للقيام بذلك.
يقول: “يومًا نأكل مع والديَّ، وفي اليوم التالي مع شقيقة زوجتي، ولكنّني لا أدري إلى متى سنستمرّ بهذا الشكل، فهم يكافحون أيضًا من أجل إعالة أسَرهم. لم نبلغ حدّ الجوع بعد، ولكن من المؤكّد أنّ الأمر ليس ببعيد”.
ويتابع قائلًا: “إنّ الحياة سيّئة بالنسبة إلي، ولكنّني أتوقع مستقبلًا أكثر قتامة لأولادي. أبلغ من العمر ثمانية وعشرين عامًا وأشعر أنّ حياتي تسير في طريق مسدود، ولست الوحيد الذي يشعر هكذا في مجتمعي”.
لطالما صُنّف الفلسطينيون في لبنان ضمن أكثر فئات المجتمع ضعفًا. ومع ذلك، يتزايد شعورهم اليوم بخيبة الأمل، والعجز، والتمييز بحقّهم.
توجد حاليًّا بين المهمشين، فئة أشدّ تهميشًا. إنّهم أولئك الذين فقدوا حياتهم بشكلٍ لا يمكن تصوّره، والذين يعيشون أيامًا وليالي من الحرمان المُدقع، داخل المخيمات وخارجها. هؤلاء يعانون بصمت. هؤلاء يعيشون حياة المُهمَلين.