تفاصيل المدونة

من أجل مقاربة بناءة لحقوق اللاجئين الفلسطينيين في لبنان

من أجل مقاربة بناءة لحقوق اللاجئين الفلسطينيين في لبنان

علي مراد

أستاذ جامعي وباحث قانوني

  إن قضية اللاجئين الفلسطينيين في لبنان هي في الأصل قضية شعب هُجِّر قسراً من بلده نتيجة المجازر الإسرائيلية التي تلت حرب العام 1948، رفضاً لقرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين إلى دولتين، ووجد نفسه مضطراً إلى مغادرة أرضه باتجاه الدول المجاورة، ومنها لبنان الذي استقبله في ظروف ظن الجميع أن العودة ستكون قريبة، خصوصاً بعد صدور القرار 194 الضامن لحق العودة. ولكن ما حدث كان عكس ذلك، بحيث طالت إقامة الفلسطينيين وغابت الحلول ودخل اللاجئون الفلسطينيون إلى لبنان في تواريخ مختلفة، بداية مع النكبة سنة 1948، ومن ثَمَّ النكسة سنة 1967 وما رافقها من إعادة تهجير، إضافة إلى بعض الأحداث في الدول العربية. وبقيت أبواب لبنان مفتوحة لاستقبال موجات اللجوء الفلسطيني. 

انطبع التعامل مع ملف اللجوء الفلسطيني بالخوف من التوطين، فلم يصدر قانون شامل يعالج موضوع اللجوء الفلسطيني، إنما اقتصر الأمر على إصدار المرسوم التشريعي رقم 972 الصادر في 31 آذار 1959 الذي يحدد دور إدارة شؤون اللاجئين. كل هذا أدى إلى حصول التباس كبير بين رفض التوطين مطلقاً من جهة، وبين حرمان الفلسطينيين من حقوقهم المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهة أخرى.

غياب الإطار القانوني الموحد

لم تتوصل الأمم المتحدة إلى وضع تعريف محدد على نحو كافٍ للاجئ الفلسطيني، بل اكتفت بالتعريف العملي للأونروا الخاص بالإغاثة، والتي تعرّف اللاجئ بكل شخص كانت فلسطين مكان إقامته العادية لفترة لا تقل عن سنتين قبل نشوب نزاع سنة 1948، والذي فقد دياره ومورد رزقه نتيجة هذا الصراع. ولكن هذا ليس تعريفاً قانونياً، بل عملاني لأغراض الإغاثة.

أما في لبنان، فتكمن الإشكالية القانونية ذات الخلفية السياسية والنتائج الاقتصادية والاجتماعية في غياب التعريف القانوني الواضح للاجئين الفلسطينيين، الذي اكتفى بالإشارة في المادّة الأولى من القانون إلى أن “يُعدّ أجنبيًّا كل شخص طبيعي لا يحمل الجنسية اللبنانية، خلافًا للتعريف الخاص الذي أوجدته الأونروا” الذي “اعتبر لاجئاً كل شخص لجأ إلى لبنان نتيجة الصراع في فلسطين، أيا كانت جنسيته أو موقع إقامته المعتادة وموقعه الاقتصادي”. إذ إن هؤلاء، وبحسب المادة ٢٦ من قانون ١٠/٧/١٩٦٢ “كل أجنبي محكوم سياسي من سلطة غير لبنانية أو مهددة حياته أو حرياته لأسباب سياسية، يمكن أن يطلب حق اللجوء السياسي”.

ومع تعدد موجات اللجوء، وغياب التعريف القانوني الواضح، تعددت فئات اللاجئين إلى ثلاث: الفلسطينيون اللاجئون المسجلون لدى الأونروا ولدى السلطات اللبنانية ويعرّف عنهم (R.R) وهم يتمتعون بحماية الأونروا؛ الفلسطينيون اللاجئون المسجلون فقط لدى السلطات اللبنانية وغير مسجلين لدى الأونروا (N.R)، وهم يتمتعون بمساعدة الأونروا؛ اللاجئون الفاقدون أوراقهم الثبوتية (Non ID) وهم غير المسجلين إطلاقاً لا من قبل الأونروا ولا من قبل السلطات اللبنانية، وهم لا يملكون أي أوراق ثبوتية.

لقد نتج عن غياب التعريف الموحد وتعدد الفئات، حالة من اللامساواة بين الفلسطينيين أنفسهم، وخلق معضلة في الوضع القانوني الخاص بهم، حيث حرم البعض منهم من أبسط الحقوق بسبب هذا الوضع، كما أثر سلبًا على إمكانية منح حقوقهم وتحديد واجباتهم على نحو دقيق.

تطور إيجابي في العلاقات اللبنانية -الفلسطينية

في السنوات الأخيرة، شهدت العلاقات اللبنانية الفلسطينية تطورات إيجابية أكّدت دخول هذه العلاقات بين الدولتين والشعبين في منحى جديد بعد إعادة افتتاح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت في 15 أيار من العام 2006، ثم ارتفع مستوى التمثيل الفلسطيني في لبنان إلى مستوى السفارة في العام 2008، وأعقبه صدور “إعلان فلسطين في لبنان” عن سفارة دولة فلسطين في لبنان والذي أسس لمرحلة جديدة في العلاقة بين الشعبين.

وكان إنشاء لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني في العام 2005 قد شكل خطوة هامة في طريق التعامل المنهجي والموحّد مع قضية اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، والتعامل مع ملف بالغ التعقيد والتشعب والحساسية، خصوصاً لجهة تشابكاته على المستويات التشريعية والتنفيذية، أو الإجرائية والأمنية المزمنة. وكانت لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني قد حددت ضمن أهدافها ضرورة بلورة سياسة لبنانية عامة تجاه قضايا اللاجئين الفلسطينيين، وإيجاد إطار رسمي للدولة اللبنانية للتعامل مع الشؤون الفلسطينية وتأمين الهيكليات المناسبة لذلك.

كما وسجلت في الآونة الأخيرة تغيرات إيجابية يمكن البناء عليها، كان أولها المذكرة الصادرة عن وزير العمل اللبناني بتاريخ 7/6/2005، والتي أجازت للفلسطينيين المولودين في لبنان والمسجلين بشكل رسمي في سجلات وزارة الداخلية اللبنانية بالعمل في بعض المهن المختلفة والتي كانت حصراً للبنانيين. وفي العام 2021 صدر القانون رقم 221 الخاص بتنظيم مزاولة مهنة التمريض الذي سمح لوزارة الصحة بأن تأذن للفلسطيني المقيم بصفة لاجئ وفق قيود منظمة الأونروا وضمن ضوابط معينة، بمزاولة مهنة التمريض في مستشفيات لبنان،  الأمر الذي يؤشر إلى وجود مقاربة جديدة لا تجد تعارضًا بين الثوابت الوطنية وبين تأمين مصالح كل من اللبنانيين والفلسطينيين.

نحو مقاربة جديدة

بداية، وفي ظل هاجس التوطين والخوف من فرضه كنتيجة لتسوية إقليمية أو دولية، الذي جعل الدولة اللبنانية تحجم عن إعطاء اللاجئين الفلسطينيين العديد من الحقوق المدنية والاقتصادية والاجتماعية، لا بد لأي مقاربة أن تتعاطى بجدية مع هذا الهاجس، وربما تعمل على التفكير في تكريسه قانونًا، وذلك تطبيقًا للفقرة (ط) من مقدمة الدستور، وتأييداً لحق العودة المنصوص عليه في أحكام القرار 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 11/12/1948، بحيث يعرّف رفض التوطين حصراً بوجوب الالتزام بعدم إعطاء اللاجئين الفلسطينيين في لبنان الجنسية اللبنانية بشكل جماعي، بعضهم أو كلهم.

وللخروج من هذه الدائرة المفرغة، يتبين أن إحداث أي اختراق جدي على مستوى الحقوق والواجبات للاجئين الفلسطينيين (لاسيما في مجال العمل والتملك والانتقال) يستوجب كخطوة أولى إعادة النظر بالوضع القانوني للاجئين الفلسطينيين، واستطرادًا إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني في لبنان بما يسمح بتجاوز العراقيل القانونية والإدارية التي تميز بين الفئات الثلاث.

في هذا الصدد ينبغي التفكير في توحيد كل الفئات عبر نص تشريعي يوحد بينها، ويعرف اللاجئ الفلسطيني على أنه “كل شخص أو متحدّر ممن كان مكان إقامته المعتاد في فلسطين وهُجِّر قسراً إلى الأراضي اللبنانية بدءاً من العام 1947 وما تلاها وبقي عليها بصورة مؤقتة”. إن هكذا تعريف شامل من شأنه أن يحدد من هو اللاجئ الفلسطيني بدءاً ممن هُجّر قسراً ليتبعه من تحرر منه سنة 1947 وما تلاها من هجرات قسرية أخرى على مر السنين من سنة 1967 وما بعدها.

كما لا بد لهذا المسار أن يرافقه حوار هادئ وبناء تشرف عليه وتنسقه لجنة الحوار يتم الاستماع خلاله لكل المخاوف والمطالب وإيضاح كيف أن إعطاء هذه الحقوق لن يؤثر بأي شكل من الأشكال على المطالبة بحق العودة ورفض التوطين في تلك الدول. وعلى النقيض تمامًا، فإن حرمان اللاجئ من الحقوق الأساسية ووضعه في ظروف مزرية وعزله في المخيمات، يزيد من الضغط على المجتمعين اللبناني والفلسطيني، من دون أن يؤثر هذا الحرمان بشكل مباشر أو غير مباشر على التوطين ورفضه.

ختامًا، إن إيجاد حلول للتحديات العالقة في مقاربة ملف اللجوء الفلسطيني في لبنان، تستوجب العمل والبناء من أجل إعادة النظر في الوضع القانوني للاجئين الفلسطينيين في لبنان، وتوحيد الفئات المتعددة، بما يضمن المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، ويؤسس لمنحهم عددًا من الحقوق المدنية والاقتصادية والاجتماعية، بما لا يتعارض مع أحكام الفقرة (ط) من مقدمة الدستور والمتعلقة برفض التوطين، وكذلك مع أحكام القرار 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 11/12/1948، أي الوصول إلى وضع قانوني يتعامل مع اللاجئين الفلسطينيين بصفتهم لاجئين استثنائيين، مع التمسك التام بحقهم في العودة، ووضعهم في مكانة قانونية أعلى من باقي الأجانب، من دون أن يحصلوا على الجنسية اللبنانية.

اترك تعليقا