تفاصيل المدونة

واقع الحياة: ما تخفيه الإحصائيات

فيما لبنان يكافح، تتطوّر العلاقات بين الفلسطينيين والمواطنين المُضيفين

مضى عامان تقريبًا، ولبنان يعاني من أزمات متتالية أنذرت بانهيار اجتماعي واقتصادي لم يصل إلى ذروته بعد. ومع غرق البلاد أكثر فأكثر، انزلق عدد أكبر من السكّان في براثن الفقر. تقدّر وكالات الأمم المتحدة أن 71٪ من اللبنانيين يعانون الآن من الفقر، ولكن هذا الرقم يتجاوز حاليًا الـ75% بين الفئات المهمشة في المجتمع – بما في ذلك اللاجئون الفلسطينيون، حيث تضافرت الضغوط الاقتصادية أيضًا لتؤدّي إلى توترات اجتماعية.

أدّت الأزمات المتلاحقة من التظاهرات الشعبية، وتفشي وباء كورونا، وانفجار مرفأ بيروت 2020، والفراغ الطويل في السلطة السياسية الوطنية، إلى تدهور كبير في الاقتصاد اللبناني. ويتم التداول بالليرة اللبنانية بأقل من 10٪ من قيمتها الرسمية حاليًّا في السوق السوداء، فيما المجتمع واقع في حالة من الاضطراب.

في بلد غالبًا ما تخفي إحصاءاته الرسمية حقائق مقلقة، تفيد التقارير بأن مستويات البطالة بين اللبنانيين تقل عن 20٪، ولكنّ الرقم الفعلي قد يصل إلى ما يقارب 30٪، بينهم أكثر من 40٪ من الفئة الشبابية. وفي هذا أيضًا، تكون المجتمعات المهمشة هي الأكثر تضررًا، بحيث تتجاوز البطالة الفلسطينية اليوم 60٪.

ثمة حقيقة دامغة لا تقبل التأويل، وهي أن الحياة في لبنان لم تكن يومًا أكثر صعوبة، بالنسبة إلى القاطنين داخل المخيم وخارجه، على حد سواء.

تقول فرح عوكاشة، وهي أم فلسطينية لثلاثة أولاد وتبلغ من العمر ثلاثين عامًا: “لقد عانت البلاد بأكملها من تأثير فيروس كورونا وانعكاساته على الاقتصاد، ولكن الآثار كانت أكبر بالنسبة إلينا في المخيمات، وصار الحصول على العلاجات أصعب بكثير”.

ها نحن جالسون في منزلها في الطابق الثالث – في سراديب أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في بيروت، حيث يمكن الوصول إلى المنزل عبر درج مظلم في نهاية متاهة من الأزقة الضيقة – ولا يضيء جلستنا إلّا نور خافت يتسلل عبر نافذة واحدة. انقطعت الكهرباء التي توفّرها الدولة – فهي تزوّد المخيم بالطاقة لمدة ساعة واحدة فقط في اليوم – وجدران المباني المتلاصقة تحجب أشعة الشمس نهائيًا عن منزلها.

عملت فرح، منذ أربعة أشهر، في القسم القانوني لمنظمة دولية غير حكومية. ولكن عندما انتهى المشروع، وجدت نفسها في المنزل، ما من شيءٍ تفعله سوى الانتظار والأمل بانطلاق مشروع آخر مماثل.

تتحدّث بحزنٍ قائلةً: “ما من وظائف لنا في لبنان، فنحن كفلسطينيين، ممنوعون من العمل في معظم الشركات. وحتى ولو كنا مؤهلين بشكلٍ أفضل، فإنّ اللبنانيين يحتفظون بأفضل الوظائف لأنفسهم. لذلك، يجب أن نتأمّل وننتظر الحظ، كما حدث معي، لكي نحصل على وظيفة داخل منظمة غير حكومية فنتمكّن من توفير الدعم لأسرنا”.

ومع ذلك، نجد فرح مستسلمةً بشكل مفاجئ لمحنتها. وتسأل بصورة بلاغية: “هل يريد اللبنانيون مساعدتنا؟” وتجيب “ربما، ولكنّهم حاليًّا يعانون نفس معاناتنا، ويكافحون من أجل إعالة أنفسهم. ومع أنّ الوضع أسوأ بالنسبة إلينا في المخيمات، إلّا أنّهم لا يستطيعون المساعدة”.

الفلسطينيون ليسوا ملتزمين جميعًا بالسلوك الخيّر.

المصوّر ناصر خزعل هو شخصية معروفة في المجتمع. أسّس الاستوديو الخاص به داخل أحد المخيمات منذ العام 1994 واستمرّ في عمله على مدى سنوات، ويقول: “كانت بعض الأعوام أفضل من غيرها… ولكن لم يسبق لي أن عانيت صعوبات كهذه من قبل”.

“مع استمرار الانهيار الاقتصادي، يجد الناس أنفسهم ملزمين بالاختيار بين إنفاق أموالهم لدى مصور محترف، أو إطعام أسرهم”. وبالفعل، اضطر ناصر مؤخرًا، إلى بيع معدات الفيديو الخاصة به لتغطية النفقات الأخرى.

إنّ عدم المساواة بين الفلسطينيين واللبنانيين المضيفين آخذ في الازدياد. كان عمّ ناصر مصورًا أيضًا، يدير استوديو في بيروت لسنوات عديدة، وقد سجّله باسم زميل لبناني له. وعلى الرغم من أنّه لا يُسمح له كفلسطيني بامتلاك شركة، إلّا أنّ الجميع كان يعرف مَن هو مدير الأعمال في الاستوديو.

حين كانت الأعمال متوافرة وكافية للجميع، لم يكن أحد يمانع عمل ناصر. ولكن عندما لاحت رياح الأزمات في الأفق، متجلّيةً في إلغاء حفلات الزفاف والحدّ من الأعمال التجارية، تضامن المصورون اللبنانيون معًا. ويقول ناصر: “لقد أجبروا عمّي على إغلاق الاستوديو. لقد كان جيدًا، بل الأفضل، ولكنّه فلسطيني”.

ومع أنّه يحصي لبنانيين كثرًا بين زبائنه، إلا أنّه يؤكد وهو يهز برأسه، مشعلًا سيجارته: “لا توجد فرص عمل للفلسطينيين هنا. لن نحقق أبدًا المساواة في لبنان، فاللبنانيّون يعتقدون أنّهم إذا سمحوا لنا بالعمل وتأمين مستقبلنا، سنكون سعداء في بلادهم، وسننسى فلسطين ونقرّر البقاء”.

ويؤكّد ناصر “من المستحيل أن يحدث ذلك. فبالرغم من أنّ معظمنا وُلد هنا، إلّا أنّنا لا نستطيع أن ننسى فلسطين، وفي النهاية علينا العودة إلى ديارنا.”

وفي المقابل، لا يزال الأمل باديًا لدى الشباب الذين لم يختبروا بعد عقودًا من محاربة النظام.

نور عجاوي البالغة من العمر 25 عامًا، هي معلمة في معهد تعليمي تموّله إحدى المنظمات غير الحكومية. وهي تعكس، من خلال دعمها لأطفال اللاجئين السوريين الضعفاء الذين يعيشون الآن داخل المخيمات، أهمية عملها والمفارقة الأساسية في تقديم اللاجئين المساعدة إلى اللاجئين.

وتشير نور إلى أنّ ” المجتمع اللبناني يتجاهل الأطفال الذين نعمل معهم هنا. لذلك، تقع المسؤولية على عاتقنا، كمجتمع لاجئ آخر، لنشعر بالتعاطف الكافي ولإيجاد مكان لرعايتهم”.

باسل عبد الله يبلغ من العمر عشرين سنة. كان على مدى السنوات الأربع الماضية، جزءًا لا يتجزأ من “فريق الطوارئ” التطوعي في المخيم. معًا، يلبّون طلبات السكان الذين يحتاجون إلى السباكة أو التصليحات الكهربائية. إنه العمل الوحيد الذي قام به باسل حتى اليوم، ولكن من دون أجر.

ويقول: “إنه لأمر محبط أن أكون قد اكتسبت أربع سنوات من الخبرة، ولكنّني غير قادر على تطبيق مهاراتي والاستفادة منها خارج المخيم”. ومع ذلك، فهو يتحكم بشعوره بالإحباط ويضيف: “لا أسمح لنفسي أبدًا بالغضب، فهو لن يغير هذا الواقع أبدًا”.

يطمح أحمد الزكار إلى الانخراط في عمل مهمّ وأساسي خارج المخيمات. هو متطوع في الدفاع المدني الفلسطيني في لبنان، ومُسعف أول أنهى تدريباته ويقدّم اليوم الدعم لأي شخص محتاج – بغض النظر عن جنسيته.

ويؤكّد أحمد “إنّنا هنا من أجل كل لبنان، على الرغم من أنّنا لا نلقى أي مساعدةٍ منه.”

يشكو لنا جاره علي أصيل، صاحب صالون حلاقة ويبلغ من العمر 31 عامًا، من أنّهم سئموا من تلاعب النظام ضدّهم. ويسأل: “هل يمكن أن ينعم الفلسطيني بحياةٍ كريمة في لبنان؟ ممكن، فنحن نستطيع العمل بجهدٍ وكدّ ولكنّ النظام اللبناني لا ينفكّ يغرقنا أكثر فأكثر. كلما حاولنا تطوير أنفسنا وتحسين وضعنا، يصدر قانون جديد ينهينا عن ذلك.”

لِعَلي ابن يبلغ من العمر عامَين اسمه رضا. “ستكون لابني نفس فرصي في النجاح – صفر، وستبذل الحكومة اللبنانية قصارى جهدها للقضاء على طموحه هو أيضًا. أنا غاضب من هذا التفاوت وعدم المساواة، فنحن فلسطينيون، نعمل بجد ونواجه كل الصعاب طالبين العلم والثقافة والتقدّم. ولكنّنا ما زلنا نملك أمرًا واحدًا، أتعرفون ما هو؟ الأمل… لقد جئنا إلى هنا وعشنا وما زلنا صامدين بفضل الأمل. وعلينا أن نستمرّ بالنضال”، يختم علي.