مقال جسور
إبن 14

صحافي لبناني
بيار ومحمود خلفي يتهامسان. مدموزيل سيمون تقرأ قصة بالفرنسية أحد أبطالها اسمه فيليب. آنسة جميلة صوت آسر. تشتت حواسي: عيناي تراقبان مدموزيل سيمون في رواحها ومجيئها أمام اللوح الأسود وأذناي تلتقطان شذرات من الحديث الدائر خلفي. بيار يروي لمحمود أنه حصل على “رينجر” جديد أسوة بكل المنخرطين في دورة تدريبية في مخيّم تل الزعتر. محمود يسأل زميله وشريكه على “البنك” الدراسي عن موقف أهله من خضوعه لدورة تدريبية مع الفلسطينيين. يجيب: “ما معهم خبر شي من شي”. ويكمل بيار إثارة دهشة محمود أنه تعلّم فك الكلاشينكوف وتركيبه في دقائق ما أثار إعجاب مدرّبه. و”إذا بدّك أحد الجايي منروح سوا”. دق الجرس، خرج محمود وبيار إلى ملعب ثانوية الأشرفية الأولى للصبيان، ملعب مراهقتي الصعبة، وانزويا وكأنهما يحوكان مؤامرة على مشارف نيسان 1975.
يكبرني بيار بسنة تقريباً. أما محمود فكان ربما في مثل سنّي لكنه يفصّل إثنين من حجمي. بيار ومحمود رفيقاي: الأول بحكم الجيرة والثاني بحكم الزمالة. في الحرب حارب “الرفيق” بيار مع حزب “الكتائب” بوصفه مقاتلاً متمرناً وانقطعت أخبار محمود! وسمعت لاحقاً أن الأخ محمود التحق بحركة “أمل” الموالية للفلسطينيين في زمن نشأتها الأولى، وتدرّب عناصرها في مخيمات عسكرية تحت إشراف مدرّبين فلسطينيين. سرق العام 1975 مراهقتنا ولم يرجعها.
مخيم تل الزعتر، الذي تدرّب فيه بيار، قصدته مراراً برفقة والدي المعلّم عبده العامل في أحد معامل المكلّس، جارة المخيم. امتلك والدي هواية واحدة في حياته: إكتشاف الملاحم. حيث تُباع اللحوم لا حيث يزهو الشعر. وهناك في أزقة الفقر والفوضى عثر والدي على ضالته: ملحمة تبيع لحوم الضأن بأسعار زهيدة. وعثرتُ أنا بجهد فردي على محل بالة ابتعت منه سترة شتوية بيضاء تدفئ اليوم ذاكرتي.
كانت المسافات، لمن هم في سننا، لا شيء. ذات يوم قررنا، شلّة من خمسة، أن نتوجه من الأشرفية إلى المدينة الرياضية مشياً لحضور مباراة بين النجمة وفريق الهومنمن (شقيق الهومنتمن). إخترنا السير على الأقدام لا حباً برياضة المشي لكن توفيراً لبعض القروش. إتكل الجميع عليّ، وأنا منذ يفاعتي إلى اليوم أتوه في طرقات أعرفها. بعد ساعة ونصف الساعة من المشي الحثيث وجدنا أنفسنا في أزقة مخيم صبرا وشاتيلا. مسلحون وزحمة ونداءات عبر مكبّرات الصوت تدعو إلى التعبئة. تعبئة ضد من؟ شعرت برهبة. ببوادر حرب. شممت رائحة الخطر. خفق قلبي بسرعة. ألف فكرة سوداء راودتني. ولم يعد إليّ الهدوء إلا لحظة دخلت في بوابة مدينة كميل شمعون الرياضية. ربما اتكلت، في لا وعيي، على كميل شمعون لحمايتي وإعادتي إلى الأشرفية سالماً.
في سن الـ14 مشيت في التظاهرة الشهيرة المؤيدة للجيش اللبناني التي دعت إليها أحزاب “الكتائب اللبنانية” و” الوطنيين الأحرار” و”الكتلة الوطنية” (أركان الحلف الثلاثي) وكانت المرة الأولى التي أستطعم فيها حلاوة المدّ البشري، في سن الـ 14. بعد يوم وقفت أمام أحد أكشاك الصحف حيث كنت أستلذ بقراءة العناوين مجاناً وما تيسّر من أخبار الصفحة “الأولى” وأذكر تماماً ما كتبته إحدى الصحف: “نزل لبنان الماروني بأكمله لدعم الجيش الفئوي”، إبتسمت وقلت في نفسي: “وهل الروم موارنة؟”، وإن وجد في جيبي ربع ليرة من طريق الخطأ أشتري “النهار” وملحقها الأدبي. وأذكر تماماً ما كتبه أنسي حاج في تلك السنة “لو كان اللبنانيون واحداً لا نصفين لما وقعت حرب على الإطلاق”. ومرت في خاطري سريعاً فكرة خلاصتها: لو وُلدت في البسطة لأبوين سنيين مع أي نصف كنت لأكون؟
في سن الـ 14 شهدت البداية الفعلية للحرب المتعددة الوجوه، وأذكر أن والدي أخبرنا بشيء من التباهي أنه زارعائلة أحد الفلسطينيين الذين سقطوا في مجزرة البوسطة وقدّم تعازيه وسمع أحدهم يحلف فوق رأس الشهيد بأنه سيثأر له من بيار الجميل!
في سن الـ 14 حملت السلاح (والقلم لاحقاً) ضد التنظيمات الفلسطينية المسلّحة – وقتذاك كنت مغرماً بأغنية “زهرة المدائن”ولم أزل.
في سن الـ 14 حملت السلاح (والقلم لاحقاً) ضد التنظيمات الفلسطينية المسلّحة – وقتذاك كنت مغرماً بأغنية “زهرة المدائن”ولم أزل.