مقال جسور

استهداف “الأونروا”.. حربٌ على حارسة ذاكرة النكبة وقضية اللاجئين

استهداف “الأونروا”.. حربٌ على حارسة ذاكرة النكبة وقضية اللاجئين

كريم المفتي

استاذ جامعي وباحث في العلوم السياسية والقانون الدولي

عام تلو عام وتزداد الضغوطات على وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينين (أونروا) ما يعدّ بمثابة جبهة من جبهات الحرب المفتوحة على القضية الفلسطينية في الشرق الأوسط. في رسالته الأخيرة إلى اللاجئين الفلسطينيين، يتطرق المفوض العام للأونروا فيليب لازاريني إلى أهم التحديات التي تواجهها المنظمة، وعلى رأسها أزمة التمويل الدولي واعدا بالدفاع عن مكانة الأونروا وصلاحياتها في تقديم الخدمات الأساسية لما يقارب 6 ملايين فلسطيني مسجلين في قوائمها. ووعد أيضاً بأن يوصل صوت القضية خلال مؤتمر التعهدات السنوي بشأن الأونروا الذي سينظّم في الجمعية العامة للأمم المتحدة في حزيران القادم في نيويورك، معتبرا المؤتمر بمثابة “فرصة أخرى لدعوة المجتمع الدولي إلى إظهار التضامن مع اللاجئين الفلسطينيين”.

رغم تنبؤ المفوض العام بالفشل المحتمل لذاك المؤتمر وكل المساعي المرتقبة للحفاظ على امكانيات المنظمة المتضائلة، هو يشدد على أنه لن يسمح بأي “عبث بولاية الأونروا”. غير ان هكذا مشهد سيتكرر في المستقبل القريب مع مضاعفة جهود القوى الحليفة لاسرائيل في العالم والمنطقة في كسر المنظّمة ومعها الجانب الإنساني للقضية الفلسطينية: كرامة ناسها.

عندما انشأت الأونروا عام 1949، وهي من المنظمات الأولى المنشأة لدى الأمم المتحدة، تم تكليفها بتنفيذ برامج الإغاثة والتشغيل لدعم حوالي 750 ألف فلسطيني هجروا قسرا من ديارهم خلال النكبة. يرتكز توفير الأونروا للتعليم والصحة وشبكة الأمان الاجتماعي والتمويل الصغير وخدمات البنية التحتية للأفراد والأسر المؤهلين من بين حولي 6 مليون لاجئ فلسطيني مسجل في الأردن ولبنان وسوريا والضفة الغربية وقطاع غزة بين 1.3 مليون لاجئ يعيشون في 58 معسكرًا معترفًا به. تدير أو ترعى الوكالة أكثر من 900 منشأة (مدارس، عيادات، مراكز اجتماعية، نقاط توزيع أغذية، معاهد تدريب…) وتوظف حوالي 29.000 شخصا، الغالبية العظمى منهم من اللاجئين أنفسهم. وتتمثل المهمة الرئيسية للوكالة في الحفاظ على الخدمات وتقديمها، بما في ذلك التعليم (أكثر من 500.000 متلقي) والرعاية الصحية (في حدود 3 ملايين مستفيدا) والإغاثة في أوقات النزاع.

إلا ان العالم من حينها شهد تطوراً لمكانة الوكالة. فيكتب رامي خوري كيف “أصبحت الأونروا بمرور الوقت مرادفًا لجانبين من تجربة اللاجئين الفلسطينيين: حياة طويلة في المخيم وديمومة الهشاشة”[1]، على انها تطورت خلال 60 عامًا “من وكالة تقدم الخدمات الأساسية للاجئين الفلسطينيين في المقام الأول، إلى منظمة تجسد في أنشطتها وتصريحاتها حاجة الفلسطينيين التي لا تلين للاعتراف بمعاناتهم التاريخية وحل مظالمهم الوطنية المشروعة”.[2]

بالتالي، باتت تجسد المنظمة احدى رايات حماية المشروعية القانونية للقضية الفلسطينية على الساحة الدولية. فأسفرت تلك المواقف عداوة شديدة وبلورت ديناميات فتاكة ضد كل ما يسعف المساعي الفلسطينية المحقة. لم يكن التطور “السياسي” للأونروا بالضرورة خطوة مدروسة من قبل القائمين على شؤونها، وقد يكون نتيجة طبيعية لمسار وكالة كتب لها النشاط المستمر رغم تصنيفها “المؤقت” في الأصل.

في هذه الظروف، قررت قوى الاحتلال الدفع نحو تراجع الأونروا والرهان على اختفائها، ومعها زوال صفة “اللاجئ الفلسطيني” وهو تصنيف قانوني مرتبط ارتباطا وثيقا بحق العودة للفلسطينيين في القانون الدولي، الأمر المرفوض من الاحتلال الاسرائيلي. اذا، بات استهداف الأونروا سلاحا جديدا في استهداف حق العودة ومحاولة ازالة ذاك المصطلح من قاموس القانون الدولي، هذا بالاضافة الى توجيه الضربات العسكرية الاسرائيلية ضد منشآت الوكالة في غزة لا سيما عندما تم استخدام مدارس الأونروا كملاجئ للقصف، مما تسبب في سقوط العديد من القتلى في ما يشكل فصلا جديدا من فصول جرئم الحرب الاسرائيلية.

من الممكن تحديد نقطة انطلاق الحملات الممنهجة والمحترفة على الوكالة في أوائل عام 2009 في دراسة من اعداد (جيمس ليندسي) من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى بعنوان “إصلاح الأونروا: إصلاح نظام الأمم المتحدة المضطرب لمساعدة للاجئين الفلسطينيين”.  في هذا التقرير، يقترح (ليندسي)، وكان مستشارا قانونيا للأونروا، على الولايات المتحدة أن تدعم سياسة التراجع عن أنشطة الخدمات الاجتماعية للوكالة مع التركيز على تقليص عدد اللاجئين المسجلين بشكل كبير في قوائمها، ومراجعة خلفية جميع الموظفين والمستفيدين لاعتبارات أمنية وتقييد التصريحات العلنية لكبار الموظفين. ورغم مواجهة تلك المقترحات في الأوساط الأكاديمية والاعلامية، الا ان بقيت الأونروا تواجه تصعيدا وجيها على هذه الساحة، أبرزها  التي تقضي أن وجودها يديم مشكلة اللاجئين.

كانت وما زالت المنظمة فريدة من نوعها قبل أن تقع هي الأخرى ضحية غياب الآفاق الدبلوماسية للقضية الفلسطينية. فواصلت الجمعية العامة للأمم المتحدة تجديد تفويض الوكالة في ظل عدم وجود حل متفق عليه لعودة اللاجئين الفلسطينيين، ومن دون أن يمس ذلك مشروعية حق العودة كما هو منصوص عليه في القانون الدولي. والمعلوم ان ذاك الحق غير قابل للتصرف وهو مكفول بالقرار رقم 194 من الجمعية العام للأمم المتحدة الذي يقضي بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة و التعويض (وليس أو التعويض)، هذا وقد أصر المجتمع الدولي على تأكيده لأحكام القرار 194 في أكثر من 135 نص دولي منذ العام 1948. وللتذكير تنص الفقرة 11 أن “اللاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش في سلام مع جيرانهم يجب أن يُسمح لهم بالقيام بذلك في أقرب وقت ممكن عمليًا ، وأن التعويض سيتم دفعه مقابل ممتلكات أولئك الذين يختارون عدم العودة و عن الخسائر أو الأضرار التي تلحق بالممتلكات التي ينبغي ، بموجب مبادئ القانون الدولي أو الإنصاف ، تعويضها من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة “.

في اطار تلك المواجهة، تعاني الوكالة من أزمة تمويل مفتعلة بينما ازدادت الاحتياجات مع اندلاع الحرب في سوريا وما أسفرت من مصائب على الفلسطينيين القاطنين هناك حيث يدعم اللاجئين في مخيمات مثل اليرموك ومن دون أن يؤخذ بحاجات الوكالة في المحافل الدولية. كما في مسألة إعادة إعمار غزة، لم تتلق الوكالة سوى ثلث المبلغ الذي وعد به الجهات المانحة وقد حذرت في أكثر من مناسبة من أنها قد لا تتمكن من إدارة مدارسها. هذا وأدت أزمة التمويل بدورها إلى احتكاكات مع الفلسطينيين التي أدت الى تنظيم مظاهرات خارج مكاتب الأونروا، في محاولة لنزع الدعم الشعبي الفلسطيني للوكالة، هذا ولا يزال اللاجئون الفلسطينيون يشعرون بالعجز والإهمال من قبل العالم وصولا الى قياداتهم.

تتعرض الوكالة للقنص الممنهج لأنها الهيئة الدولية المهمة الوحيدة التي تتحدث بقوة وتذكر العالم بأن اللاجئين يتعرضون لسوء المعاملة بشكل خطير من قبل إسرائيل وفي محور دول أخرى، وأنهم محرومون من الحماية والحقوق المنصوص عليها في القانون والاتفاقيات الدولية.

عودة لرسالة لازاريني الأخيرة، يحاول الأخير مصارحة اللاجئين وطمأنتهم في عدم طرح “على الطاولة تسليم أو نقل للمسؤوليات والبرامج” للوكالة وانه “لا يوجد أي عبث بولاية الأونروا”، تلك المنظمة التي ” لا يمكن الاستغناء عنها”. الا انه يصعب عليه اخفاء الحالة المستصعية التي باتت حقيقة المشهد، وسيضطر اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، في أن يتحدث بصراحة أكبر عن مخاطر نتائج ترك مجتمعات اللاجئين في تلك الظروف ومعارضة التخلي المادي والسياسي، دفاعا عن الشعور بالأمل وإنسانية اللاجئين القلسطينيين. فلا رجوع الى الوراء للأونروا في مهامها لتذكير العالم بأن اللاجئين يمثلون قضية سياسية ووطنية لم تحل وتتطلب اهتماما عاجلا من قبل المجتمع الدولي، الملزم بضمان تطبيق تدابير الحماية القانونية للانسان الفلسطيني.


[1] Rami G. Khouri, Sixty Years of UNRWA: From Service Provision to Refugee Protection, Refugee Survey Quarterly, Vol. 28, Nos 2 & 3, 2010.

[2] Idem