مقال جسور
الأغنية السياسية: الرباط الشعبي الثقافي بين لبنان وفلسطين

*عبيدو باشا
لم احتج الى الصعود على درج لكي أصبح فلسطينياً. لا لأنني ليبرالي. بل لأنني رجل حر، اكتشف حريته بين عمريه. عمرٌ من عمر التظاهرة الفلسطينية المقصوفة. وعمرُ الحرب على المخيمات بالعام ١٩٧٣. لا حياد ولا ابتعاد بعد ذلك، ولو أن تنكيس رؤوس الفلسطينيين جرى للمرة الأولى ولاأازال في السادسة أو التاسعة من عمري، لم أعد أذكر. وأذكر أن تنكيس رؤوسهم مرة اخرى، جرى ولا أزال بالسادسة عشرة. لم يحتج الفلسطينيون راكباً مذعوراً على متن ما يوحي بلفظهم من المعادلات. أوصلني قهر الفلسطينيين إلى ذخيرتهم لا إلى فنادق السلطة. لا مقابلة أولى ولا مقابلة أخيرة لأضحي فلسطينياً، من منحوا البلاد وهم يمرون في وديان موتهم الأرباح الضخمة، من استرداد الحياة إلى عيش اكثر من حياة في حياة واحدة. بالحرب، حرب الشراكة بين القوى الوطنية والمقاومة الفلسطينية. عاش اللبنانيون حياة مضاعفة، ركض خلالها حملة الأقلام والغيتارات والكاميرات والأفلام وكُتّاب ونصوص المسرح. مسرح بعيد من سياسة الكلمات المتقاطعة، والفنانون التشكيليون والرواة والقصاصون، وراء الأحزاب لا الدولة، بعد أن اطلقت الدولة النار على رأسها. ثم فرت مستقلة سيارة يقودها سائق من عصابات اليمين.ملأت البلاد ناسها بالأسى. بالخراب. بالخوف والغضب.
وحدهم الأموات لم يغضبوا أمام الأحداث وتفكرات السلطة باسترجاع ” الحق الإسرائيلي” خارج فلسطين. الا أن أحداً لا يستطيع بعد أن يعبث بالذاكرة ولا بما تكلف الحياة من مهمات. لم يعد بمقدور أحدٍ أن يهز سحر الفلسطيني وفلسطين وما خلفه السحر. لا ازال أذكر شهقتي على تلة شلعبون بمدينة بنت جبيل، اذ رأيت رأس الخيط المتوهج من فلسطين تحت أضواء الكشافات الحربية الإسرائيلية. لوح المشهد بفكرة، بفتنة. لا بهدنة. هناك، لا كمن يقف على رصيف مجاور لرصيف يجاور الرصيف المجاور. هناك، لكي تفتح الأبواب من الجانبين على عمق فلسطين. بقي شيء مني بحوزتها دوماً. بقي شيء مني بحوزة الفلسطينيين، قبل أن يحطموا حضورهم بالعام ١٩٨٢. لأنهم وهبوا بيروت وسع انتشارها وتعزيز كسموبوليتها وبعثاتها وعثورها على بقاياها القديمة وعشرة الأيام، كما منحتهم. منحوها درويش القاسم واميل حبيبي وناجي العلي وجزءاً من حساسيتها الجديدة وجزءاً من حداثتها وما بعد الحداثة، بعد أن راكمت فكرها وعلومها وثقافتها وشعلتها وانفتاحها وأخوتها الثورية. الأغنية السياسية من شلل الدولة واتفاقها على قتل كل مواصفات المدينة لكي تجلس على رأس حزب. الأغنية السياسية من ربط الشعر بالفلسفة النضالية ومن النشاط والديناميكية الثقافية الجديدة. العبء الرئيسي الأول على الشعر الفلسطيني. لم يعترض ولم يعارض أحدهم الأخوة بين الشعر الفلسطيني والملحنين والمغنين اللبنانيين. الشعر الفلسطيني هو المرشد العام الأول للأغنية السياسية. ثم، شعر الجنوب. ثم، أصحاب الموقف النقدي من زواج الفصاحة بالموسيقى. وزراء اللهجات والعاميات.
الأغنية السياسية حياة في حياة، احدثت تطورات مناسبة ولكنها لا طبيعية، حين انتزعت كل معاني الانفتاح على قيادة النظام الجديد للأغنية الجديدة. عالم بلا مذكرات. عالم مفتاح، عالم بقوة القطعات المسلحة مع مارسيل خليفة منذ “وعود من العاصفة” واحمد قعبور منذ “اناديكم” وخالد الهبر منذ “سنزرع في الشياح” وغازي مكداشي منذ “سجل أنا عربي”وآل الغندور وأسامة حلاق وال الحافي وحنان مياس وسامي حواط. صح التعبير مع هؤلاء، اذا صح التعبير.بلاشفة احتلوا السماء، بعد ايمان الأرض بهم. ذلك أن الثقافة احاطت السياسة بانواع حماية غير مكتوبة. حين لم يبذل السياسيون أي جهد أمام الثقافة بأجمل معارضها، بحيث لم يواكبوها لا بالخطط ولا بالمراعاة. أصر الأخيرون على بقاء المدينة في شؤونها المتأخرة، كالسلاح والأمن والمحروقات، لمَّا أن ثمة منشأة أخرى، هي منشأة الحرب الأهلية الأجمل والأعمق لم توضع لها الدلائل، حتى من أجل استثمارها. هكذا، شقت الأغنية السياسية والمسرح والسينما كل ما يقع ضمن سلطة الأحزاب، بعد أن تخطت سلطة الدولة. وهذا، ما حولها من فرصة إلى عالم، مع خروج الجميع منها بسهولة أدهشت المهندسين المعماريين. حافظت على قيمتها الثقافية / السياسية (الفكرة) من حريتها، ما حوًلها إلى مشروع يراعي اموراً عديدة منها أن تتقدم وتستمر بالتقدم كمساحة مفتوحة وكحيز عام لسكان المدينة ولبنان ودول العرب، مع محاولات كثيرة انبنت على تعلم القيادة بين الخطوط وفي الاماكن الضيقة، بعيداً من القوانين والمواد الدستورية. ولكن الأمر أدى ببعضهم إلى الوقوف على رصيف الأغنية هذه أو على نوافذ معرضها، من قلة الفهم. ذلك أن هذا الإنجاز انجاز متعدد حصل من قوة لا من رجفان أمام ظروف ولادتها الموضوعية. لم تطوع الأغنية في سوريا ولا في تونس ولا في المغرب ( ظهور فرق ذات أعلام اخرى. بحيث افتقدت إلى عروض الأغنية السياسية. كناس الغيوان وذي الجلالة كمثالين باهرين ). نسخ أو تدعيم. ذلك أن ثمة من يجزم بأن مجالس الإدارة المركزية لا تؤدي إلى انتاج رفيع معبر، بغياب الشروط والظروف والحوامل والكفاءات. هكذا،
لم يستطع أحد شيطنة الأغنية السياسية، من ازدهار القدرات القصوى للاستخدام لدى اللبنانيين والفلسطينيين في عصر من عصورهم. تحين لالتقاط المشهد. هذا ما حدث، اذ انتزعوا الحق بالحياة بعيداً من أعمال الهدم وبفكرة تغيير المعالم، ولو أن الفكرة قد تؤدي إلى استشهادهم.
تترك الحروب بصماتها بالنفوس والبشر والأشياء، زملاء المرحلة. لم ينجُ الجميع كما لا يتوهم أحد. بيد أن من سلم، وإن حمل جراحه كالأوشام أو الرسوم في ذاكرته، يدرك أن الأغنية السياسية هي من اختزانات الحرب واختراقاتها. لذا، خرجت من المسام والأرواح، مقيمة معهم وفيهم أو مقيمون فيها، لاتبارحهم ولا يستطيعون الرحيل عنها.لأنها جزء من عاصفة الذاكرة. ذاكرة لا تزال تطالع الأحبة والرفاق والاصدقاء، من رفعوها بأرواحهم وأحلامهم على رؤوس المقاتلين وتحت ابطهم في لحظات الاشتباك المباشر. من حلموا بلبنان آخر وبالعودة إلى فلسطين. من قرأوا بالأغنية لا زخات اللهب وحدها، ظروف الأغنية، خلفياتها. اغنية متروكة بعيداً من الصدأ على الأعشاب العالية، لأن أصحابها بنوها، اقاموها، وادركوا من خلالها قوى الرباط الشعبي بين لبنان وفلسطين، بعد أن استشعروا عمق القضية الفلسطينية من خلال العلاقات المفتوحة. أثر العنف هنا. هنا التمايز الإجتماعي بعمليات دباغة لم تظهر كما ظهرت خلال الحرب الأهلية، مع توافق الشعور والشعور. ماحصل حصل أمام الناس. تراكمات خرقت شخصياتهم، بحيث لم يعد في مفهومهم السائد سوى التمايز عن المواقف الماضية وتعريض الأنفس للخطر، لأنها معرضة بالأساس إلى الموت البطيء. ذلك أن السجلات لا تطمئن كما لا تطمئن الوقائع الجديدة على الأرض. السادات بالقدس، يتكلم وكأنه يتحكم بالأواصر العائلية لكل البشر. لم يهز الصورة النمطية للعلاقة باسرائيل، حين هزَّ اساسات وعمليات وتوليفات ومصوغات بلاد العرب. اهتزت بنية السرد أمام ثنائية المستبد المتواطئ مع اسرائيل والحركة الصهيونية برهنٍ جديدٍ لحسابات الغرب الإمبريالي. لم تخنه نزعة أهل السلطة، لمَّا عاهد اللبنانيون الفلسطينيين والفلسطينيون اللبنانيين على عبور المراحل بكل التصاوير والتعابير، من الإشتغال المشترك على الأرض إلى اخراج فسحات المفاجأة والدهشة بنوع من التهور المحسوب، لجعل الأشياء والأشكال والأدوات والبشر يتحرشون ببعضهم ويحرضون بعضهم على التواصل، لا طمعاً بدورة جديدة من الارتجال. بدورة من الذرى الارتجالية. ما سعت إليه بيروت دوماً، طمعاً باضافة ما، تغني أساليب التعبير، لكي لا تسقط القضية في حالات الإكتفاء الذاتي والمراوحة أمامها من مصادرتها والاعتداء عليها من خلال المصادرة، كما فعل المستر سادات، وهو يدفع بالمسلمة في مقابل اكبر عملية تزوير في التاريخ. الأغنية السياسية وليدة الظروف لا التصورات ولا الخطط الجاهزة. إنها ابنة التدخل في المجريات، بانطواء النفس على الثقة بالنفس. اذ ادرك الجميع أن شيئاً لا يقوم سوى على سكن اللحم والعظم. سوف يتعرض الجميع للسقوط اذا ما بقيت الجماعات تفتقر إلى حرارة العلاقة بالمعادلة المكونة للشخصيات. لا جادة صواب باستمرار احتلال فلسطين. هذا ليس استثماراً. بالعكس. عكس الأمر خيانة. لا نكران لوجود متعة بالخروج من التلقائية الفنية إلى احتراف النمط. نمط عارم، نمط عازم، نمط لا يكرر ولو وقع بالتكرار. أعرف أن هذا الكلام سيثير غضب الأصوليين على الضفتين. الا إن اجراء مقابلة مع النفس، سوف تقود إلى داخل العمليات الفنية والخلفيات السياسية والفكرية للأوزان الاجتماعية والسياسية والفكرية المشتركة بين اللبنانيين والفلسطينيين. يتوقف كل طرف على ما يقوله الطرف الآخر. يتوقف على التماهي ما لم يجرؤ أن يفعله الآخرون، كحقيقة واقعة بالعمليات الفنية المتداخلة بالواقع. الشيء والشيء نفسه، ما لا نستطيع تجاوزه، مع كما ينبت العشب واحمد العربي واحمد الزعتر وشارع الأضواء وسجل أنا عربي وقلت للنيل ترجل وحق العودة. كل ما انتج في لبنان، حدث انتاجه لفلسطين. حيث جرى مشهد لقائها بالعلن لا في الخفاء، بعيداً من خطابات التضليل. يربطنا الميثاق الفكري بين فلسطين وعمقها العربي. هنا مساحة الحرية، تقدم آمال النهضة. لم نخف، لم نرتجف أمام فكرة معاقبة التفكير الحر وتأديب الشباب. لم يُهجَّر الشعب الفلسطيني فقط، بعد أن صبت كل المآسي عليه إثر التهجير. ان حرية الإرتباط بالقضية الفلسطينية تعني أن مساحات الضغط والتغيير تزداد لصالح الأقطار ضد انظمة الفساد والإستبداد والقمع. سند الشقيق، أقل ماحدث. لو تماهت الأنظمة الأخرى مع مهماتها،اذا حكمتها الحرية والإرادة الديمقراطية، لفتحت كل جبهاتها ضد اسرائيل. ليس بالضرورة في اشتباكات حربية، ولكن في افواج الدعم الثقافية والاقتصادية والفكرية. ولأن الأمر لم يحدث، وقع تمرد المدينة على حكامها وعلى صناع القرار فيها. هكذا رصد تراجع السلطات المركزية أمام وحدة الواقع والمصير والهتاف بين اللبنانيين والفلسطينيين في واحدة من المشاركات المدنية الأعظم في تاريخ الشعوب. بالرصد الموضوعي وفي منأى عن المرغمة الثقافية مع النظام. اتحاد الكوادر المخلصة ضد قطع كل متنفس. مع الحقيقة المطلقة، من الجيش الأحمر الياباني إلى بادر ماينهوف و الألوية الثورية من كل انحاء العالم وكل حركات التحرر. طواف كبير للحرية بعيداً من الأسواق. حملت القضية الفلسطينية مشروعاً ضخماً في مواجهة عجز المحور العربي : تحريك الحوارات المعطلة، اطلاق الصراع الفكري على هدى الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي. توحيد الرؤية في مواضيع النهضة والإستقلال. معركة الأيام الثقافية، معركة الأيام المعرفية، مؤسسة لوعي سياسي جديد. حلم الدولة والنهضة أو حلم النهضة لا الدولة. إنه الجهاد الأسلم، ما لم يخش اللبنانيون الوقوع فيه، بحيث نجم عن مواجهته ما لا يتكرر. الأغنية السياسية أولاً.إنها واحدة من عجائب الحرب. اذاك، لم نرتفع كابناء عهد متوحش، بل كابناء ثورة ايتام. لأننا لم نستطع أن نفصل انجذابنا إلى فلسطين، من خلال التطور المشترك، في محطة من محطات العمر. حيث تخطينا نظاماً مرعباً بأصوليته. أنظمة اصولية، هيئات وجمعيات ومنظمات وجهات بمسحات وجدانية وعقلية تندرج في خانة المواقف النبيلة، بخلايا سامية ونبيلة وبالخلاص من أعراض الضعف الإنساني. تمرد على الستاتيكو، بالوعي التام بنتائج التمرد، اذ أبينا حساب النتائج والإستسلام إلى القواعد. هكذا، تحدينا الذات، لأجل إحقاق الحق. هكذا، وضعنا العالم أمام الامتحان الصعب من دون حياء، حين هجم علينا بقواته بفيلم قصير، ضحينا في مواجهته ولم نفلح، ليخرج الفلسطينيون من لبنان على بواخر الشرق والغرب. أما نحن، معشر اليسار، لقد خسرنا الكثير. خسرنا الأغنية السياسية، بوضعها بعتمتها بعد اتهامها بالدعوة إلى التحريض بعودة الحرب. روى الراوي ولا تبرير بعد إنجاز الفيلم.
*كاتب ومخرج تلفزيوني وناقد مسرحي