مقال جسور

الإعتزاز بالهوية الفلسطينية لمنع التوطين

الإعتزاز بالهوية الفلسطينية لمنع التوطين

الدكتور طلال عتريسي

أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية

  لم يتوقع الفلسطينيون في لبنان أن تشملهم بعض حملات التحريض والعداء التي طاولت النازحين السوريين، التي لم تميّز بين “غريب” لاجئ منذ عقود، لا يستطيع العودة إلى بلاده المحتلة، وبين “غريب” نازح تشترطُ المؤسسات الدولية عودته “الطوعية والآمنة”. لقد تمّ الربط بين أزمات لبنان الاقتصادية والمعيشية وبين وجود هؤلاء النازحين واللاجئين. وقد استحضرت مفردات عنصرية تجاه “الغرباء” من دون تمييز بين سوري وفلسطيني، وتمّ  تصوير لبنان “كبلد مهدّد بالانقراض بفعل اللجوء السوري والفلسطيني… وأنّ “الشعب اللبناني، بات مثل الشعبين الفلسطيني والسوري، يبحث هو عن أرضه وكيانه واستقلاله واستقراره…”، حتى أن بعض السياسيين رفض أن تمنح المرأة الفلسطينية أو السورية الجنسية لعائلتها “لأنّ بلدنا سيصبح فارغاً من اللبنانيين” (العربي الجديد 20/9/2016).

  ما هو أسوأ من حملال التحريض وخطاب الكراهية، وإلقاء تبعة التدهور الاقتصادي والاجتماعي على عاتق النازحين واللاجئين، الدعوات التي أُطلقت في أثناء تفشي وباء كورونا إلى أولوية تطعيم اللبنانيين قبل سواهم من غير اللبنانيين. ما دفع مدير منظمة ثابت لحق العودة، سامي حمود، إلى اعتبار ما صدر عن بعض الشخصيات السياسية اللبنانية “لا يمت إلى الأخلاق والإنسانية بصلة، ويندرج ضمن التصريحات العنصرية التي تُسيء إلى الشعبين اللبناني والفلسطيني على حدٍّ سواء”.(موقع لاجئين، بوابة اللاجئين الفلسطينيين 20/12/2021)

هكذا، وبدلاً من المطالبة المزمنة بتحسين شروط الحياة في المخيمات، سيتحوّل بعض الاهتمام الفلسطيني إلى ردّ تُهم العنصريّة، وإلى محاولة تبيان التمايز عن تداعيات النزوح السوري على الواقع الاجتماعي والسكاني والخدماتي في لبنان.     
ما تقدم لا يعني أن معاناة الفلسطينيين جديدة أو أنها استجدّت مع النزوح السوري إلى لبنان قبل سنوات، بل ثمة مشكلات حقيقية متشعبة ومعقدة بين الطرفين اللبناني والفلسطيني تمتد إلى عشرات السنين لعبت عوامل عدة، سياسية وإعلامية ونفسية، أدواراً عدة في توليدها أو في تفاقمها، وكذلك في تباين وجهات النظر تجاه الحلول المناسبة لمعالجتها.

فها هو الجانب القانوني لا يزال مفتوحاً لمعالجة استبعاد الفلسطينيين من سوق العمل اللبناني، أو لحل معضلة مساكنهم في المخيمات التي تحتاج إلى الترميم. فعندما يقوم أي فلسطيني على سبيل المثال بزيادة غرفة على المسكن الذي يعيش فيه في المخيم يتعرّض للملاحقة القانونية، وإذا أراد تسوية المخالفة يطلب منه هدم البناء بأكمله. وإذا كان مثل هذا القانون يصح على اللبناني الذي يعيش على أرضه، فلا يمكن تطبيقه على من يعيش في ظروف خاصة في مخيم لللاجئين.

إلى هذا البعد القانوني، ثمة مشكلة تقبع في عمق النظرة المتبادلة بين الطرفين اللبناني والفلسطيني، وتلعب دوراً سلبياً مباشر أو غير مباشر في مشروع تطوير العلاقات الاجتماعية والانسانية بينهما. فمن الجهة اللبنانية لا يزال البعض، يستعيد المشاركة الفلسطينية في الحرب الأهلية، عند أي منعطف سياسي داخلي، كما يعمد إلى التخويف من التوطين لمنع المطالبة بأي حقوق انسانية أو اجتماعية. ويعتقد بعض اللبنانيين أن على الفلسطينيين أن يبقوا خارج التأثيرات الطبيعية الاجتماعية والسياسية التي تحصل في بيئتهم التي يعيشون فيها وينتمون إليها، سواء في لبنان أو في فلسطين، أوحتى في البيئة العربية الأوسع. فعندما تبرز تنظيمات دينية إسلامية متطرفة في المخيم، وتقوم بأي عمل مسلح أو غير قانوني، أو إجرامي، يشبه ما تقوم به تنظيمات متطرفة في المجتمع اللبناني، أو في داخل فلسطين أو في مصر أو في تونس، يعتبر البعض أن التفاعل مع هذا التطرف تهديداً فلسطينياً للبنان. ويستعيد البعض الربط بين هذا التطرف وبين مواجهات سابقة حصلت بين الفلسطينيين والجيش اللبناني في مخيم نهر البارد. ويشتكي اللبنانييون كذلك من الإقتتال بين الفصائل الفلسطينية والمواجهات المسلحة في ما بينها للسيطرة على أحياء أو على مواقع في المخيمات. وهو أمر غير مقبول بالنسبة إليهم، ولا بد من ضبطه ومنعه لأنه يهدد أيضاً أمن وسلامة المخيمات والمناطق السكنيّة المجاورة لها. وقد ساهمت مثل هذه الاشتباكات فعلياً في تحويل بعض المخيمات إلى ساحة صراع غير مبرر على النفوذ بين أطراف فلسطينية عدة، كما يقول سكان المخيم أنفسهم: “السلاح المتفلّت في المخيّمات يقتل الشعب الفلسطيني ويُهدد استقرار المخيّم والجوار اللبناني”، (موقع لاجئين، بوابة اللاجئين  الفلسطينيين20/10/2018).  

وتثير مثل هذه المواجهات المسلّحة التي يشتكي منها الفلسطينيون أنفسهم، قضية نزع سلاح المخيمات، وما يتصل بذلك من سردية استعادة السلطة وسيادة الدولة في المخيمات التي تمتد على معظم الأراضي اللبنانية. ولا ينفع في ذلك تصريحات ومواقف القيادات الفلسطينية كافة في داخل لبنان وخارجه التي تؤكد على سيادة الدولة وعلى الإلتزام بالقوانين اللبنانية، مع المناشدة في الوقت نفسه من أجل تحصيل الحقوق التي يحتاجها الفلسطينيون مثل حق العمل وسوى ذلك من ضمانات اجتماعية وصحية.

يعتبر الفلسطينيون من جهتهم أن اللبنانيين يتحمّلون مسؤولية الحرمان والتهميش الذي يعيشون فيه. ولا يرون في سلوك اللبنانيين تجاههم سوى مجموعة من القيود ومن القرارات الظالمة ابتداء من الحواجز الأمنية على أبواب المخيمات، التي تراقبهم عند الدخول والخروج، وتمنع عنهم حرية التنقل، إلى القرارات والقوانين التي تمنعهم من العمل أو التملك، وإلى رفض أي مبادرة تتيح لهم ممارسة حقهم في العمل. ويستحضر الفلسطينيون في هذا الإطار من القلق والتهميش ذكرى مجازر صبرا وشاتيلا، التي تفاقم من شعورهم بالتهديد والقلق، ومن الحذر، وتجعلهم يعتقدون أكثر ببقاء السلاح في أيديهم، على الرغم من أن كثيرين ولدوا بعد هذه المجزرة.

لا ينفصل هذا التباين في النظر بين الرؤيتين الفلسطينية  واللبنانية عن الشعور بالتهميش في نظرة الفلسطيني إلى نفسه وإلى تعريفه لهويته التي يختصرها بـ “لاجئ”، خاصة«عندما يذهب لإنهاء معاملات رسمية أو يسافر». وهي أحاسيس ومشاعر من يسكن في المخيم، ويعيش وضعاً اقتصادياً صعباً، ويذهب إلى مدارس الأونروا، التي انخفض عدد التلامذة الناجحين في امتحانات الشهادة المتوسطة في مدارسها من 70% عام 2018 إلى 49% عام 2022. في حين  تجاوزت نسبة النجاح في لبنان للشهادة نفسها نحو 79%.(الأخبار 17/8/2022) 

إن مثل هذا الشعور بالتهميش سيؤدي على المستوى النفسي إلى خطورة استبطان نظرة غير سوية قد تتحول إلى نظرة عدائية، تغذي مشاعر التطرف، والرغبة  في تجاوز القوانين، وحتى قد تتحول إلى ممارسة عدائية تجاه المجتمع اللبناني، لا تستطيع أي لجنة حوار أن تزيلها. ما يحتاج إلى رؤية وخطة مشتركة، لبنانية فلسطينية، إعلامية وثقافية واجتماعية لمعالجة أسبابها العميقة.

ومن المؤسف ألا يلتفت اللبنانيون إلى ان هذا التهميش وتغييب الحقوق سيدفع إلى توليد بيئات من العنف والانحراف لن تبقى محصورة في داخل المخيمات، بل ستمتد، كما هو الإنحراف عادة، إلى المجتمع اللبناني. وبدل أن نكتفي بإلقاء التبعات على الفلسطيني، علينا التفكير معاً لبنانيين وفلسطينيين، في الأسباب التي أدت إلى الإنحراف، مثل ترويج المخدرات التي بدأت حملات التوعية المشتركة ضده في مخيمات اللاجئين، أطلقتها الأونروا”بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية، (موقع لاجئين، بوابة اللاجئين الفلسطينيين 3/7/2022)

ربما يصعب حل المشكلات كافة السياسية والاجتماعية والأمنية والقانونية للفلسطينيين في لبنان. وقد كان الوضع كذلك في العقود الماضية. خاصة وأن الرؤية لحل بعض هذه المشكلات كانت ولا تزال تتأثر بالتغيّرات والاتجاهات السياسية في لبنان، أكثر مما تتأثر بطبيعة الحقوق التي يفترض أن يحصل عليها اللاجئ الفلسطيني. كما تتأثر في الوقت نفسه بالتغيرات والاتجاهات التي تحصل في المجتمع الفلسطيني نفسه، ما يزيد من صعوبة حل هذه المشكلات التي ربما من الأفضل أن تتحول إلى قضايا تُعالَج كل واحدة منها بشكل مستقل، على الرغم من الترابط بينها. كأن تطرح على سبيل المثال قضية الخدمات أو البناء أو البنى التحتية في المخيمات ويتم التركيز الاعلامي والاتصالات والحوار مع المعنيين فلسطينيين ولبنانيين لمعالجتها. ثم تطرح قضية ثانية هي حق العمل أو التملّك.  وربما يحتاج تغيير الصور السلبية المتبادلة بين اللبنانيين والفلسطينيين إلى برامج وأنشطة خاصة تشارك فيها هيئات محلية طلابية واجتماعية من الجانبين وربما مع هيئات دولية أو عربية أو غيرها.

مثل هذه المحاولات الجديّة ستسهم بلا شك في توفير الحد الإنساني المقبول مما يحتاجه اللاجئ الفلسطيني في المخيمات، الذي يجب أن يُقدّم له كل ما يعزز شعوره بالإنتماء إلى هويته الفلسطينية، ما سيجعله أكثر تشبثاً بحقه في العودة إلى بلده فلسطين.