مقال جسور
الإعلام وقضايا اللاجئين بين حدّي الكراهية أو الخوف: حق العمل نموذجاً

تغريد عبد الله
استاذة جامعية وباحثة
يتأرجح التعاطي الإعلامي اللبناني مع قضية اللاجئين الفلسطينيين، من خلال التداعيات التي تثيرها الأزمات والأحداث المتعلقة بحقوقهم على المستويات السياسية والأمنية والإجتماعية. وتتفاوت التغطية الإخبارية لتلك الأحداث، وفق الإنتماء السياسي لكل وسيلةٍ إعلامية، والهدف المتوخى منها، المتعلق إما بمناصرة القضية أو بتوظيفها في خضم الصراعات السياسية والخلافات الوطنية أو من خلال التقارير الدعائية الهادفة الى تغيير وجهات نظر الرأي العام بما يخدم سياسة الفئة المُهيمنة، وبما يُسهم في إفراغ القضية من مضمونها.
ويعكس الخطاب الإعلامي رؤية الفرقاء السياسيين المتنازعين في تعاطيهم مع القضية من خلال المساحة التي توفّرها وسائل الإعلام، واللغة المُستخدمة في تناول حقوقهم، والصورة الذهنية المشبعة بخلفياتٍ سياسية وفئوية.
ولعل أبرز الأحداث التي لقيت تجاذبات في الخطاب السياسي والإعلامي أخيراً، قضية حق العمل التي أثارها وزير العمل اللبناني مصطفى بيرم في كانون الأول 2021، والتي تقضي بالسماح للفلسطينيين المولودين في لبنان العمل في المهن الحرّة، بخلاف التعاميم السابقة الصادرة عن الوزارة، والتي كانت تمنعهم من شغل 73 مهنة، وتستثنيهم من الحصول على عملٍ من دون تصريح.
القرار الذي أثار جدلاً واسعاً وانقساماً حاداً آنذاك بين مؤيدٍ ومعارض، سرعان ما تم الطعن به من قبل مجلس شورى الدولة، وتم وقف تنفيذه، ما دفع بالوزير بيرم الى التوضيح لاحقاً إن “ما قمنا به هو توسعة لنسبة العمالة الفلسطينية ضمن ما تسمح به القوانين اللبنانية”.
ولعل ظاهرة الإنقسام الحاد بين الفرقاء، تظهر العلاقة الهشّة، والمعقّدة، وغير المتجانسة للهيكلية السياسية اللبنانية المبنية على أسسٍ طائفية، ما أدى الى تنافر في وجهات النظر حول حقوق الفلسطينين، في ظل غياب نظام تشريعي ملائم، ما انعكس على الخطاب الإعلامي المنقسم هو الآخر، مبرراً مخاوفهم وهواجسهم.
فالخوف من توطينٍ محتمل للفلسطينيين في لبنان، أثّر على أراء فئة كبيرة من اللبنانيين التي خشيت من أن السماح للفلسطينيين بحق العمل أو بحق الملكية أو الجنسية وغيرها من الحقوق، قد يُكرّس فقدان حقهم بالعودة الى وطنهم، الأمر عبّر عنه صراحةً رئيس التيار الوطني الحر، مُعتبراً أن القرار “مخالفٌ لقانون العمل وللدستور، وهو توطينٌ مقنّع ومرفوض”.
فيما يؤكد وزير العمل السابق سجعان قزي، وهو من رافضي قرار الوزير بيرم ” أن المشكلة ليست في توفير حق العمل أو السكن للاجئين، إنما في التوطين الذي قد يؤدي الى تغيّرات ديمُغرافية ينتج عنها خللٌ في التوازن الطائفي، ما يهدّد وحدة لبنان وكيانه.
وبحسب وجهة النظر عينها، يعاني لبنان انهياراً اقتصادياً مروعاً، مسبباً هجرة الآلاف لعدم قدرتهم على العيش الكريم، ونسبة بطالة تتخطى40 بالمائة، بعدما خسر العمال اللبنانيين وظائفهم وبالتالي بات البلد غير قادر ٍعلى تحمّل أية اعباء إضافية.
من جهة أخرى رفضت جهات من المجتمع المدني والرسمي مواقف من سمّتهم بـ”السياسيين العُنصريين”، الذين مارسوا ضغوطاً دائمة لإقصاء تلك القضية تحت عنوان ” التوطين”. واعترضوا على معاملة اللاجئ بصفة ” أجنبي” ونعتَه بأنه “يسرق” وظائف اللبنانيين، طالبين منه الحصول على إجازة عمل أسوةً بالعمّال الأجانب. ورأت أن المرسوم يُبشر بتعديلات على القوانين التمييزية، ويضمن فرص عمل أكبر للاجئين الفلسطينيين في لبنان، ويضمن لهم حياةً كريمة. كما رفض الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط “الهجمة التي يتعرض لها قرار وزير العمل مصطفى بيرم، مذكراً بـ “أن قرار الوزير، إنما يأتي في إطار الصلاحيات المعطاة له بما لا يتعارض مع قانون العمل وجملة من القوانين اللبنانية التي كان للحزب شرف اقتراح بعضها”.
اللاجئون الفلسطينيون، بدورهم اعترضوا على الإجراءات القاسية التي يتعرضون لها والتي تحرمهم الحق في العمل، مع أن الكثير من قياداتهم تقرّ بأن الأولوية هي للمواطن اللبناني، لكن من دون إنكار حق اللاجئ الفلسطيني أو الإجحاف به.
اليوم، يعيش اللاجئون واقعاً اجتماعياً وإنسانياً مُقلقاً، حيث يُعاني حوالى 65 في المئة منهم من الفقر، ويفوق عدد العاطلين عن العمل 60 في المئة بحسب تقريرٍ نشرته اليونيسف مؤخراً، وقد أدى الى تفاقم سوء واقعهم سياسة التقشف التي اعتمدتها الأونروا، وتفاقم أزمة آلاف اللاجئين السوريين الفارّين من الحرب الى لبنان، والأوضاع الإقتصادية المُرعبة التي تعصف بلبنان وجعلته من البلدان الأكثر غلاءً، والأقل مرتبة في العالم.
الخطاب السياسي المنقسم بين الفرقاء اللبنانيين، انعكس بثقله على الخطاب الإعلامي سيما أن وسائل الإعلام اللبنانية تُمثل في معظمها بوق الأحزاب والسياسيين والسلطة. ووفق دراسات عديدة بيّنت أن خطاب وسائل الإعلام اللبنانية أسهم في إشعال أتون الحرب المدمرة التي دارت رحاها بين أهل البيت الواحد وتوّجت بالحرب الأهلية، وهي لا تزال حتى اليوم تسهم في تحريض الكراهية.
ولقد تعاطى الخطاب عينه، الذي يعبر عن المأزق السياسي السائد اليوم، مع قضايا اللاجئين الفلسطينيين من كوة الفئوية والطائفية وفق سياسة كل وسيلة.
وعليه، لا توجد إحصاءات ودراسات دقيقة ترصد التغطية الإعلامية لقضايا اللاجئين في الآونة الاخيرة في لبنان، وبخاصة قضية حق العمل، لكن يوضح تقرير شهري أعده مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية “سكايز” في تموز المنصرم، حجم “خطاب الكراهية في الإعلام اللبناني”، من خلال رصد أبرز المواضيع التي غطتها نشرات أخبار المحطات الفضائية اللبنانية.
وكشف التقرير، أن ثمة تهميش كبير الى حد التجاهل لقضايا “المرأة، والمعاقين والنازحين واللاجئين”، كما بيّن أن من أصل 940 تقريراً في النشرات الإخبارية كان هناك تقرير واحد فقط متعلق بالجماعات “المهمّشة”، كما تم رصد” إسقاط للعمال المهاجرين من المحادثة الوطنية”.
وأشار التقرير الى أن التغطيات الإخبارية ركزت على منافسة اللاجئين للبنانيين في سوق العمل، واللافت جداً أن التقرير أشار الى أن خطاب الكراهية تخطى مسألة مقت اللاجئين، ليطال أهل البيت الواحد، حيث رصد إتهامات علنية طائفية وعنصرية بين المسلمين والمسيحيين في أحد المحطات الفضائية الأساسية.
وفي سياقٍ موازٍ، لعل معرفة مالكي الوسائل الإعلامية وخلفياتهم السياسية، قد تكوّن فكرة مُسبقة عن فحوى الخطاب الإعلامي، ومسار التغطية الإخبارية ومساحة التعبير المخصصة لتناول قضايا اللاجئين الفلسطينيين، والتي تتقلص أو تغيب نتيجة أولويات تلك المحطات في ظل الإنقسامات السياسية الحادة.
ولا شك أن الإعلام المرئي هو الأكثر تأثيراً اليوم كونه يطال شرائح اجتماعية واسعة، وهو يُعبّر عن خطاب مالكيه، بغضّ النظر عن مصلحة الوطن والقواعد الصحية للتخاطب.
ونظرة سريعة الى بعض الشاشات التابعة للسلطة السياسية، استخدمت في خطابها لغةً عنصرية من منطلق طائفي، في سبيل تشويه صورة اللاجئ، ولتعبئة الناس كي تساندها في وجهات نظرها تجاه قضية حق العمل للاجئين الفلسطينيين، مبررة رأيها بالخشية من التوطين ومفاعيله الخطيرة.
كما إن تلك الوسائل لم تعط المساحة الوافية لتغطية المظاهرات الأخيرة للاجئيين مطالبين بحقوقهم، في حين أبرزت وسائل إعلام أخرى تقارير مُقتضبة، ربما نتيجة انتقائها لقضايا محلية تأتي ضمن أولوياتها الإخبارية.
ولم تتوانى الوسائل الإعلامية ومن خلفها القيّمون عليها، إلى استغلال قضية حق العمل، حتى شكّك البعض بتوقيتها المتزامن مع إجراء الإنتخابات النيابية (أيار المنصرم) والتي حظيت بأهمية غير مسبوقة في لبنان، حين تحوّلت الى ذريعة لخدمة بعض مصالح السياسيين، بين مؤيدٍ ومعارض، من خلال المزايدات الحثيثة للتأثير على الناخبين عبر شعارات تُندد بالقرار، وأخرى تُناصر القضية وتدعمها. حتى عرضت بعض شاشات التلفزة مواقف متشددة لسياسيين ضد القرار، لخلق صورة تحذر من “زوال الكيان” وترحب بـ” التوطين”.
وعليه، غذَّى الخطاب الإعلامي في العموم، وعلى مدى أعوام طويلة خلت، خشيةً وحذراً لدى اللبناني من مخاطر وجود اللاجئ الفلسطيني، وبخاصة بعد استحواذ منظمة التحرير على مفاصل السلطة في وقت سابق وتهديدها كيان لبنان وبنيته، فضلاً عن الأحداث الأمنية وحالات القتال بين الفصائل داخل المخيمات، والتي خلقت أزمات أمنية وشكلت ملاذاً للفارين من العدالة، متجاهلة افتقارهم لأدنى الحقوق الإنسانية، ما جعل التنافر بينن الفريقين يزداد هوّة.
ورسخ الخطاب الإعلامي، بحسب سياسة الوسيلة، صورةً سلبية ونمطية في أذهان الناس، من خلال صورة اللاجئ المزعزع للاستقرار الأمني، إضافةً الى استخدام الخطاب لأشكال لغوية عديدة في معالجة القضية، مثل اللغة العنصرية ولغة الكراهية ولغة المُناصرة ولغة محايدة. كما انتقى تعابير ومصطلحات ومواضيع في تغطياته، كشفت أبعاد الصورة التي تكنّها تلك الوسائل نحو اللاجئين فتعاملت معهم تارة كـ “ضيف غريب” أو “سارق للوظائف” أو ” أجنبي” كما جاء في قانون العمل، متغاضياً عن اعتبارهم لاجئين. وقد تمسك الخطاب بقوالب نمطية لخدمة أجندات سياسية، بإعتراف علني من مسؤولين لبنانيين رسميين.
وفي وقت لا يتحمل الخطاب الإعلامي كامل المسؤولية لبث الصورة السلبية للاجئين، وإن ساهم في تعميمها، حين شكل بوقاً للسياسيين المبررين مواقفهم من الخشية من التوطين حيناً أو توجساً من الدور الذي لعبته الفصائل الفلسطينية في الحروب التي شاركت فيها في لبنان، وتهديدها لوحدة الكيان حيناً آخر. لكن مهما كان حجم التبريرات، لا بد أن يُصار الى إجراء حوار لبناني لبناني، ولبناني فلسطيني، يُبلور خطاباً يبعد عن الصورة المشوهة للحقيقة، من شأنه حماية المصالح المشتركة للطرفين، ويكفل حقوق اللاجئين التي نصت عليها القوانين الدولية.