مقال جسور
التهجير بين منطقين

* روائية فلسطينية
كنتُ أقيم ورشة كتابة إبداعية لمصلحة إحدى الجمعيات في لبنان، فتفاجأت بفكرة جميلة أعدتها حكومة السويد، إذ أنّ القيّمين على العمل الثقافي هناك، إفترضوا أن إقامة المهاجرين السوريين طويلة، وبما أنّ القانون يقضي بمنح الإقامة أو الجنسية بعد سنوات من الإقامة في البلد، فسيتحوّل السوريون إلى سويديين عاجلاً أم آجلاً، لذلك فقد فكروا في نقل التراث السوري إلى لغتهم، فأصدرت الحكومة كتاباً حوى حكايات شعبية سورية، ستتحوّل شخصياتها يوماً ما إلى تراث سويدي. لقد فكر السويديون بمد جسور إنسانية نحو فكر الآخر وثقافته وتراثه، فضمنوا بذلك ولاءه ومحبّته وانتماءه للتاريخ المشترك الذي سيصنعونه معاً.
بمقارنة بسيطة مع الواقع الفلسطيني واللبناني – ليس اللبناني استثناء للعربي- سنتعرّف إلى خسارات تكبّدها الطرفان. فبعد مرور أكثر من سبعين سنة على تهجير الفلسطيني إلى لبنان، ما زال مهجّراً، وما زالت ملتصقة به صورة صنعها تهميشه وإقصاؤه والتعالي على كل جراح مرّ بها. فماذا كان ليكون لو أنّ الدولة اللبنانية تبنّت مشروعاً ثقافياً نهضوياً إنسانياً، يكون بمثابة تنفيس للكبت والقهر الفلسطيني، ومحاولة ذكية للإستفادة من مخزون شعب يزيد عدد مهجّريه على أراضي لبنان عن المئة وسبعين ألفاً، فيهم الفنان والموسيقي والكاتب والعالم والمهندس والطبيب، الجدّات اللواتي يجدلن الشعور، والأمهات اللواتي يعددن كعك العيد، والتلميذات اللواتي يعدن إلى البيت بشنطة وبعض الفرح… ماذا كان ليكون حال العلاقة لو كانت قائمة على الإحترام لا الإقصاء والتعالي؟ هل كان الفلسطيني سيحمل سلاحاً لو أنه عومل كإنسان؟ هل كان آلاف الشباب يتحوّلون إلى المخدرات بسبب البطالة التي تخنق أحلامهم وأطفالهم؟
أسأل، لأنّ تلك الحكايات عن عذابات مطويّة في القلوب، باعدت بيني وبين الكثيرين. لم تكن أمي تقول شيئاً، هي المهجرة إلى مخيم تل الزعتر، كانت فقط تمنعني عن كثير “لا تنزلي إلى بيروت وحدك… هل ستتأخرين طويلاً بعد المغرب؟ الدكوانة بعيدة ألا توجد جامعة أقرب، أو عمل مع غير المسيحيين…”.
أنا اليوم على مشارف الأربعين، بالكاد أفهم ما حصل، وبالكاد أفهم التوليفة اللبنانية، فهماً يطرح الأسئلة عن معنى الوطن، وعن الهوية، هويتي كفلسطينية مهجّرة في بلد منقسم على ذاته لأسباب طائفية، في عالم قد تخطى عتبة الألفية الثالثة بكل ما شهدته من تطوّر ونهضة. هذا الوعي غير التام لانقسام المجتمع اللبناني، خفّف من وطأتها الكثير، فأنت فيما تحيا الأحداث، قد تتشكل فيك تبعاتها وتصنعك من دون أن تدرك عمق أثرها في نفسك ووجدانك. مثلاً حين كنت طالبة في ثانوية صيدا الرسمية للبنات، لم أفهم لمَ كان عليّ أن أقتسم مع بنت لبنانية، جائزة تمنح للمتفوقين، فيما أحرزت أنا المرتبة الأولى. وحين كنت في الجامعة لم أفهم لمَ قد تذهب منحة لغيري، رغم أنه لم ينل درجاتي. لم أفهم بعدها لمَ كان عليّ أن أعمل في غير تخصّصي، فأبيع شنطة ماء وزنها خمسة عشر كيلوغراماً، مشياً على الأقدام كي أعيش، أو لمَ تلاشى ذلك الشاب الذي تودّد إليّ طويلاً حين عرف أنني فلسطينية.
كنت أندب الحظ أحياناً، من دون أن أعي تماماً، أن لا دخل للحظ في لعبة سياسية أكبر مني ومن آلاف غيري، زجّ بهم القدر في الديار اللبنانية. كنت أرفض الظلم من دون وعيه بالمعنى التام للوعي، ففي لبنان طوائف ولكل طائفة نصيبها من الورث وإلاّ وقعت الحرب. وفي لبنان زعماء لتلك الطوائف، عليهم وللمحافظة على إرثهم السياسي أن يجدوا عدواً يظهرون من خلاله دفاعهم عن اللبنانيين، ضدّه أنهم يعملون من أجل مصلحة اللبنانيين، وأنّ التاريخ الذي جمع الفلسطيني باللبناني كان في لحظة حرجة من تاريخ العرب، حيث لم يعد بالإمكان إخفاء التخاذل والتنازل عن القضية، فراحت القيادة الفلسطينية تتخبّط مستأثرة بالفعل باسم الشعب، فيما نسي الجميع تفاصيل يوميات هذا الشعب، وزجّه في مخيمات صار العيش فيها عاراً.
نعم أذكر تماماً شعوري بالعار حين عرفت واقع المخيمات، وهروبي إلى الآن منها، من أن أصدق أو أقبل أنّ آلافاً يمشون في العتمة وضح النهار، أو أنّ بنتاً تموت برصاصة لأن مسلحين من تنظيمين متناحرين اختلفا على لعبة كرة قدم، أو لأنّ مطلوباً للعدالة تحركه جهات إرهابية دخل المخيم.
في بيتنا قيلت قصص متقطعة عن الذهب الذي بيع بعد التهجير، من جدتي التي باعت مصاغها كي يشتري جدي بيتاً خارج المخيم، وينقذ أطفاله، الذين حين أصبحوا شباباً هاجروا إلى ألمانيا هرباً من الموت المحتم هنا في لبنان أثناء المجزرة، ثم عادوا محمولين في توابيت، وقصص غيرها عن تعذيب على الهوية، أو خطف وقتل. لكن أحداً لم يقل لي الحقيقة عن أي شيء، كانوا يخافون حتى من أن يتذكروا… ثم فهمت أنهم كانوا يطردون أشباح الذل لأنهم أصحاب كرامة، وفهمت صمت أمي وخوفها من الليل، وفهمت لمَ دفن أخوالي جميعاً في قبر واحد لأنّ المختار لم يقبل بيعهم من أرض لبنان إلاّ قبراً واحداً.
أقول ذلك لأني أتقبّل وأفهم أن من حق اللبناني الدفاع عن وطنه من الغرباء، لكني لا أفهم كيف لنا أن نظل غرباء وتكاد تمر مئة عام على وجودنا هنا، بينما يفكر من هم غير عرب أو جيران، بالاستفادة إنسانياً من إقامة أشقائنا السوريين في بلدهم… فإلى متى سيبقى الحال متأخراً عن ركب الإنسانية قرناً من الزمن؟