مقال جسور

الثقافة والفن بين لبنان وفلسطين: حين لم يكن هناك أي حدود أو حواجز

الثقافة والفن بين لبنان وفلسطين:  حين لم يكن هناك أي حدود أو حواجز
*كاتب وباحث فلسطيني

لم يكن بين لبنان وفلسطين حتى سنة 1926 أي حدود أو حواجز؛ فشمال فلسطين وجنوب لبنان بيئة بشرية واقتصادية واجتماعية واحدة، وسهل الحولة على سبيل المِثال، هو امتداد جغرافي طبيعي لسهل مرجعيون، وجبال الجليل جزء من سلسلة الجبال الممتدة من جبل الُلكام في شمال سوريا اليوم إلى مرتفعات جبل عامل في جنوب لبنان، ثم إلى جبال القدس، وأراضي بعض القرى الجنوبية كميس الجبل والعديسة كانت تتوغل في الأراضي الفلسطينية رغماً عن الحدود التي رسمها نيوكمب وبولييه أول مرة في سنة 1922. وكان أهالي الجنوب اللبناني يتّجهون إلى المدن الفلسطينية قبل سنة 1948 مثل حيفا ويافا والناصرة بفعل القرب الجغرافي والازدهار النسبي. أما بعد النكبة عام 1948، فقد راح سكان الجنوب يتوجهون نحو صيدا، ثم بالتدريج صاروا يقصدون بيروت. وكان كثير من اللبنانيين يسكنون في فلسطين وفي لبنان في الوقت نفسه. وعاش في فلسطين كثير من الأعلام اللبنانيين أمثال رئيف خوري وزكي النقاش وجورج حنا وعلي ناصر الدين وعجاج نويهض ونبيه أمين فارس (مولود في فلسطين على غرار مي زيادة) ووديع البستاني ونجيب نصار (مؤسس مجلة “الكرمل”) ونجيب عازوري وجورج أنطونيوس ومنح خوري وفريد زين الدين ولبيب غلمية وسلوى نصار ومعروف سعد. 

 
في الموسيقى والغناء
 
قبل النكبة اشتُهر في فلسطين اللبناني يوسف البتروني الذي عمل مدرِّساً للموسيقى في كلية تيرا سانطا (الأرض المقدّسة) في بيت لحم، ثم أصبح قائداً لأوركسترا إذاعة القدس. واشتُهِر أيضًا اللبناني المولود في عكا يحيى اللبابيدي صاحب لحن “يا ريتني طير” الذي أطلق فريد الأطرش في عالم الغناء. وعلاوة على هذين العَلَميْن، كان عجاج نويهض (من بلدة رأس المتن ووالد المؤرخة بيان نويهض الحوت) مديراً للقسم العربي في إذاعة القدس في أربعينيات القرن المنصرم. وعمل في إذاعة الشرق الأدنى كثير من روّاد اللحن والغناء في العالم العربي، وكان من بين هؤلاء لبنانيون أمثال فيلمون وهبي وإيليا بيضا (مطرب المواويل البغدادية) وصابر الصفح (بلبل الأرز) وعامر خداج  وزوجته المغنية سناء (اسمها الأصلي عدلا جدعون) وتوفيق الباشا.  واكتشف الفلسطيني صبري الشريف أن الفولكلور هو الينبوع الذي يجب أن يستقي الغناء العربي الحديث إبداعه منه، فاستدعى لهذه الغاية الشاعر اللبناني أسعد سعيد إلى القدس وكلفه جمع الأغنيات الفلكلورية في بلاد الشام، خصوصًا في فلسطين ولبنان. وتابع صبري الشريف مشروعه ذلك مع حليم الرومي حين انتقلا إلى لبنان في خمسينيات القرن العشرين، وكان معهما زكي ناصيف. والموسيقيون الفلسطينيون المهاجرون إلى لبنان تجمّعوا في الإذاعة اللبنانية، وكان من أشهرهم العازفون فرح الدخيل وعبد الكريم قزموز (أبرع عازف رق في العالم العربي) وميشال بقلوق وإحسان فاخوري وحنا السلفيتي وفريد السلفيتي وجورج أبيض، ولحق بهم الموسيقار رياض البندك والمطرب الكبير محمد غازي. وفي عام 1962 التحق بالإذاعة اللبنانية نبيل خوري وهو روائي وصحافي فلسطيني من القدس، وشفيق الحوت وهو كما يعرف الجميع صحافي ومناضل سياسي من يافا وأصل عائلته من بيروت. والمشهور أن غانم الدجاني وصبحي أبو لغد وعبد المجيد أبو لبن أشرفوا على الإذاعة اللبنانية وأدخلوا معهم المخرج اللبناني محمد كريّم الذي عمل سابقًا في إذاعة الشرق الأدنى، وأخرج في بيروت البرنامج المشهور “شامل ومرعي”، وأُضيف إليهم ناهدة فضلي الدجاني وشكيب خوري.
 
هناك ثلاثة فلسطينيين كان لهم فضل كبير على مسيرة المطربة فيروز هم حليم الرومي (حنا عوض البرادعي) وصبري الشريف الذي أخرج معظم مسرحيات الأخوين رحباني، والمطرب محمد غازي الذي درّبها على غناء الموشّحات وغنّى معها “الليل أناشيد والعمر مواعيد”، كما غنى منفردًا موشح “يا وحيد الغيد” وأغنية “خمرة الآلهة” (لحن توفيق باشا).
 
الثقافة والصحافة
لم يكن الوجود الفلسطيني في لبنان عبارة عن فصائل مسلّحة كما صوّره كثيرون، بل مكان عاش فيه مجتمع فلسطيني مقتلع من أرضه الأصلية، ثم تحوّل لاحقًا إلى مقر لحركة تحرّر وطني بما لها وما عليها. ففي لبنان، وبين عاميْ 1952 و1982 أصدر الفلسطينيون نحو 120 صحيفة ومجلة ونشرة وكانت أولاها “الثأر” في سنة 1952، ثم كرّت السبحة. ويمكننا أن نتذكر مجلات الحرية والهدف وإلى الأمام (وهي مجلات ذات امتياز قانوني لبناني)، وكذلك المجلات الدورية المتخصّصة مثل شؤون فلسطينية وقضايا عربية والكرمل ومجلة الدراسات الفلسطينية، علاوة على فلسطين الثورة وصوت فلسطين ونضال الشعب والصمود والثائر العربي وبلسم والكاتب الفلسطيني وصامد الاقتصادي والجيل وجبل الزيتون. وفي أحياء بيروت ظهرت مؤسسة السينما الفلسطينية ومركز الأبحاث ومركز التخطيط ومؤسسة الدراسات الفلسطينية ووكالة وفا للأنباء والإذاعة الفلسطينية والمؤسسات الرديفة كالمكتبات والأراشيف والمطابع. وفي تلك المؤسسات عمل ولمع كثيرون في الصحافة والكتابة الإبداعية والفنون أمثال إسماعيل شموط وتمام الأكحل وناجي العلي وغسان كنفاني ونبيل خوري وجهاد الخازن وعفيف الطيبي ووفيق الطيبي، إضافة إلى عبود عبد العال في العزف، وإحسان عباس ومحمد يوسف نجم في التعليم الجامعي، وأحمد شفيق الخطيب وقسطنطين تيودوري في القواميس والمعاجم، وديمتري برامكي في الآثار، وكان أول من أسس فرقة للرقص الشعبي في لبنان الفلسطينيان مروان جرار  ووديعة حداد. وأول من أسس الفرق الكورالية الفلسطينيان ألفاريس بولس وسلفادور عرنيطة (عمّ المغنية مادونا)، وأول من أسس مراكز البحث العلمي وليد الخالدي وبرهان الدجاني (مؤسسة الدراسات الفلسطينية) وفايز صايغ ثم أنيس صايغ (مركز الأبحاث)، ويوسف صايغ (مركز التخطيط). وشقيقهم الرابع الشاعر توفيق صايغ عاشوا وأبدعوا في لبنان، فكانوا، مثل غيرهم ممن ذكرنا، فلسطينيين ولبنانيين عربًا بكل ما تحمله كلمة “العروبة” من معانٍ حضارية شاملة. لنتذكر أيضًا أنّ جوليانا ساروفيم وموسى طيبا وبول غيراغوسيان فلسطينيون ولبنانيون في الوقت نفسه. فمن يستطيع أن يفك هذه الرابطة؟