مقال جسور
الحــوار ولجنتـه وشــروط العمـران

وسام سعادة
أستاذ جامعي وباحث في الفكر السياسي
هل يتباطؤ التاريخ أطواراً ليستعجل العَدو في أطوار أخرى؟ يحوم شبح هذا النوع من الأسئلة حول حاضرنا، في بلدنا، في بلادنا، أو قُل في هذه النقطة أو هذه المنطقة من العالم. لكنه يبسط وسواسه على مساحة العالم كله. فأقل ما يقال هنا أننا نعيش لحظة ممتدة لاضطراب كبير يستدعي تنشيط الفكر ويستدعي من الفكر في الوقت نفسه التواضع أمام ما يمكنه الإسهام فيه، وما هو متروك للصدفة أو الإحتمال. سيّان هنا ان نظرت في الاقتصاد العالمي غير المتعافي منذ أزمة 2008 الاقتصادية العالمية، أو في التحدي البيئي الكوكبي المتصل ليس فقط بالاحتباس الحراري، أو في الشلل الذي أصاب مجلس الأمن منذ أزمة ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014 وصولاً الى الإحتدام المتواصل منذ انطلاقة عجلات الحرب الروسية على أوكرانيا نهاية شباط الماضي. التوازن هو ما يصعب على الانسان انجازه في الاقتصاد كما في البيئة كما في السياسة الدولية اليوم ، مع أنه من سمات هذا العصر المعولم، المتصل، المتداخل ببعضه بمعية الثورة الرقمية المتواصلة، أنه يحتاج أكثر من العصور السابقة لهذا التوازن، والا فهو يتمادى في الاستهلاك السريع للموارد، والطاقات، واستهلاك رصيد الأجيال القادمة على نحو منفلت من عقاله.
وفي لبنان الذي يعاني الأمرّين؛ مرّة لأن “التوازن” فيه ابتذلت مقولته، وتحولت الى مسوغ لشتى الشرور وتعطيل المؤسسات وتكبيد عامة الناس فواتير قصر النظر المتراكم منذ عقود، ومرة لأنه يعيش حالة متقدمة من اللاتوازن في بيئته واقتصاده وسياسته وعلى مستوى شروط استصلاح العقد الاجتماعي فيه ونظرته الى نفسه ككيان وطني للجميع، في لبنان هذا، الذي تلعب التحويلات من خارج، من الدياسبورا اللبنانية، دورا حيويا في ابقائه على قيد الحياة، هذا في مقابل منحى متواصل للهجرة منه، بسبب هول الضائقة، وتقطع الأرزاق، واحتجاب الأفق، في لبنان هذا، ثمة أيضاً قضية لاجئين مزدوجة: الفلسطينيون والسوريون. أو قضيتان اذا أردنا أن نميز السياق الموضوعي في الحالتين. الذين هجروا من بلدهم بسبب الاستعمار الاستيطاني والذين هجروا في اطار متلازمة الطغيان والحرب الأهلية والتصدع الكياني. مع تاريخين مختلفين لعلاقة كل من لبنان بكيانه واجتماعه والسياسة فيه مع هاتين المسألتين، وحصول الانقسام بين اللبنانيين في المرتين، حول شكل تدبر المسألتين، المتساكنتين في يومنا، ولأجل غير معلوم، فوق أرضه.
من هنا أهمية إعادة البحث عن رد الاعتبار الى المعنى في مقولة التوازن. تلك التي فقدت معناها محليا، حين صارت فوقية ورهن توازن رزمة من الزعامات، أو توازن نفوذين اجنبيين مختلفي المصدر. أما التوازن الذي يمكن التفاؤل في انتاجه كمعطى تداولي تراكمي حيوي له قيمة، فهو البحث عن شروط امكان تحقيق التوازن البيئي والاقتصادي والسياسي معاً. الظمأ الى هذا التوازن الثلاثي الابعاد، وتمييز نطاقه على مستوى الوضع اللبناني. وهذا بدوره يعني العلاقة بين لبنان “الداخل” وبين لبنان “المغترب”، بما ان الدياسبورا لا تزال تنقذ استمرار لبنان وفي المقابل هذه الدياسبورا اعدادها الى تزايد مع المغادرة الحالية للبلد من قبل شرائح بأسرها وخبرات ثمينة وطاقات. ويعني أيضا التوازن بين لبنان الذي يهاجر بنيه وبين الذين هجروا الى لبنان، من فلسطينيين وسوريين. وتحديدا فيما يتعلق بالفلسطينيين وقد مضى ثلاثة أرباع القرن على اقتلاعهم من أرضهم وتفريقهم في المخيمات على امتداد المساحة اللبنانية، بحيث صار هناك معطى سوسيولوجي ووجداني متعدد الأبعاد ومن الصعب اختصاره في جملة او اثنتين، وهو “فلسطينيو لبنان”.
فلسطينيو لبنان جزء لا يتجزأ من معاشنا اللبناني. علاقتهم بهذا البلد فيها الكثير من المرارة، لكنها لا تختصر بها. فيها الكثير من الحوار اليومي مع مختلف تلاوين النسيج اللبناني، لكنه حوار لم ينتقل معظمه من الشفاهة الى التدوين، والى تفكره، والى البناء عليه. نسبة مرتفعة من فلسطينيي لبنان تعيش في المخيمات، لكن المخيمات على وضعها المحزن اقتصاديًا وصحيًا وبيئيًا وعلى مستوى العمل والتربية والتعليم، ليس معزولة عن محيطها المباشر.
لأجل ذلك، الحوار اللبناني الفلسطيني لا يمكن ان ينفصل عن الحوار اليومي، الشفوي، التفاعلي، التبادلي، “البحت”، الذي ينتجه واقع التجاور والتداخل بين الشعبين، رغم كل القيود والتعقيدات والمشكلة القديمة الجديدة المتمثلة بكيفية رسم الحاجز الحاسم بين منح الحقوق المدنية والاجتماعية للفلسطينيين وكيفية فهم عن اي وصف سوسيولوجي تاريخي للواقع اللبناني لا يمكن ان يعزل منه هذا المكون الفلسطيني، هذا من جهة، وبين شماعة “التوطين” وكل ما يميل الى تضييع أحد بعدي القضية: فاما حب فلسطين كفكرة على حساب الفلسطينيين، واما الغرق في اليومي والعملاني على حساب القضية بشموليتها وترابط عناصرها واتسامها بالطابع الطويل الأمد.
لقد راكمت لجنة الحوار الفلسطيني اللبناني جهدًا مهمًا، ومادة تواصلية نقاشية جدية وصادقة، وساهمت في تجاوز جزء مهم من ثقل الحرب اللبنانية حيال هذا الملف، وارتبط ذلك على نحو أوسع بنمو ثقافة المصالحة بين الفلسطينيين وجزء من اللبنانيين على خلفية الحرب، وان كان العمل في هذا المضمار ليس بالمستطاع القول انه انجز تماما، وينبغي الاعتراف كذلك الامر بأن الحساسيات والهواجس التي يجب ان تعالج ما عادت تختزل في جماعة واحدة من اللبنانيين. لقد طرح الوجود الفلسطيني في لبنان سؤاله تباعا، وفي ظروف مختلفة في كل مرة، على الجماعات الاهلية والتشكيلات الحزبية ذات الحيثية في هذه الجماعات. الاقرار بذلك أمر ضروري.
وتأتي الانطلاقة الجديدة للجنة لتراكم على ما سبق، انما في وضع أكثر الحاحا على صعيد البلد والمنطقة والعالم، لاعادة وضع الحوار اللبناني الفلسطيني في سياق أوسع، هو سياق مآلات الوضع في بلد مهدد تكوينه المجتمعي بعدد من العوامل والأحمال ومن الاستعصاءات المرهقة. الانطلاقة المتجددة التي لا تعني أقل من تأسيس جديد لمقال الحوار اللبناني الفلسطيني وأصله وفصله لها أن ترتبط مع الأسئلة التي يطرحها أو يكابر على طرحها اللبنانيون كما السوريون كما كل شعوب المنطقة، المشرق العربي، حول المعاش الحالي وكيفية اعادة فتح المجال للأفق، للعدالة والمساواة والكرامة، للمنفعة والعمران والتوازن، للتوازن في البيئة والطاقة والصحة والاقتصاد والسياسة. هل يمكن مثلا التفكير في معالجة شاملة للمسألة البيئية في لبنان والفلسطينيون خارجها؟ لقطاع النقل والفلسطينيون ومخيماتهم خارجها؟ لمصادر الطاقة وكيفية تقليل الاعتماد على الطاقة الاحفورية والملوثة وتنمية الطاقة المتجددة والفلسطينيون خارجها؟ هل يمكن التفكير في اصلاح النظام التربوي والتعليمي والاوضاع التربوية لفلسطينيي لبنان تبحث في مكان آخر؟ لا. لا يمكن ذلك الا اذا استمرت عملية تأجيل طرح هذه الأسئلة. والا اذا استمر النظر الى هذه الاسئلة كمجالات منفصلة، في حين هي تعني أكثر ما تعنيه العقد الاجتماعي البيئي في لبنان، وهو بيئي لانه اجتماعي، بمعنى انه عقد بين الجيل الحالي والاجيال التي لم تلد بعد. حتى لو ان الفلسطينيين خارج مفهوم المواطنة اللبنانية، بما ان قضيتهم هي قضية مواطنة فلسطينية على أرضهم التاريخية وفي ظل دولة مستقلة سيدة تجسد حق تقرير المصير، الا ان الفلسطينيين في لبنان لا يمكن افتراضهم خارج العقد الاجتماعي البيئي الضروري اذا ما كتبت الغلبة لارادة انقاذ لبنان واعادة تأهيل مقومات العيش فيه. بدوره، هكذا عقد لا يمكن ان يقرأ خارج نظرة جديدة لما يشبك بين شعوب هذه المنطقة بعد قرن ونيف على نهاية الحقبة العثمانية، تعرضت فيه هذه المنطقة لتحديات متتابعة لا ترحم، حتى بات بالمتسع تسمية معظم المرحلة ما بعد العثمانية، الزمن التراجيدي لشعوب المشرق العربي.
بالتالي، على الحوار اللبناني الفلسطيني ان يدرك خلفيته السانحة تلك، وان يثبت قدرته على المواءمة بين الانصات للملموس، للعيني، ولمعاينة سؤال الفكر، السياسي والبيئي والحقوقي والاقتصادي.
يبقى التحدي أن يتواصل هذا الجهد وهذا المسعى في ظل أوضاع مرهقة أكثر فأكثر على الصعيد الذاتي. ولأجل ذلك، تحدي اعادة المعنى للغة التوازن هو أيضا تحد شخصي لكل من يعتزم الخوض في هذا الحوار، بروح متطلعة لربطه بشروط العمران.