مقال جسور

الحوار الفلسطيني اللبناني يتطلب نبذ الأحكام المسبقة

الحوار الفلسطيني اللبناني يتطلب نبذ الأحكام المسبقة
* عضو المجلس الوطني الفلسطيني
 
كنت في الثانية عشرة من عمري عندما إضطرتنا ظروف الهزيمة في حرب 1948 لمغادرة فلسطين إلى لبنان. أتذكر المعاناة أثناء السير على الأقدام إلى بنت جبيل؛ وسط صراخ الأطفال وأنّات المسنين، وبكاء النساء. والجميع يشكون الجوع والعطش والتعب. ساعد على تخفيف معاناتنا كفلسطينيين، الإستقبال الذي حظينا به من قبل رئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح ووزير الخارجية حميد فرنجية وكلماتهم المحتضنة. 
الفلسطينيون في لبنان اعتبروا في حينه مورداً بشرياً في ثلاثة مجالات هامة، قوامها أصحاب الرساميل والمؤهلات الثقافية واليد العاملة. في هذه الأجواء لم تبرز تناقضات بين الفلسطينيين واللبنانيين. 
خلالها تعرفت على نشرة “الثأر” التي كانت تصدر بتوقيع “هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل”. وقد نالت إنتشاراً واسعاً لأنها كانت تطرح مشاكل النازحين في المخيمات، و التعبئة والتحريض ورفع المعنويات في وقت يعيش فيه الناس، بالإضافة إلى أوضاعهم الإنسانية البائسة، مشاعر الإحباط واليأس كشعب أجبر على مغادرة وطنه بكل ما يحمله من معاني التاريخ والقيم. لكن الأهم من هذا وذالك أن مجلة الثأر كانت الصوت الذي يفضح مشاريع الإسكان والتوطين والتهجير التي تطرح بدعم قوي وتمويل سخي من قبل الولايات المتحدة الأميركية لحل مشكلة اللاجئين، كمدخل للصلح مع إسرائيل وتصفية قضية فلسطين.
تصلني النشرة إلى مكان سكني في مخيم عين الحلوة وأقوم بتوزيعها إلى زملائي في المدرسة. النشرة قادتني إلى لقاء مع مجموعة من الشباب لنشكل معاً أول “خلية” حزبية للشباب القوميين العرب (حركة القوميين العرب لاحقاً) في الجنوب (صيدا، صور، النبطية، بنت جبيل والمخيمات الموجودة في محيط هذه المدن) بمسؤولية الإستاذ محسن إبراهيم، وكنت الفلسطيني الوحيد ضمن هذه المجموعة والأصغر سناً.
 
والوقائع تؤكد بما يكفي أن من قاوم تلك المشاريع (ليس في لبنان فقط وإنما في كل دول اللجوء) هم الفلسطينيون.
لم يكن الفلسطينيون طرفاً في ما سُمي ثورة 1958،  مع ذلك نالهم الضرر الأكبر من تطبيق “قانونى الأحكام العرفية” الذي حوّل المخيمات إلى “غيثوات”؛ القاضي بفتح مكتب للشعبة الثانية. وما كنا نسميه “الإعتقال الكيفي” دون تهمة محددة و محاكمة لمدة يحددها ضابط المخابرات المسؤول.
 
إستمر هذا الحال حتى نيسان عام 1969 حين حصلت إنتفاضة شعبيه في المخيمات إقتحمت مكاتب الشعبة الثانية وأخلتها من العاملين فيها، وساندها إنتفاضة شعبية بقيادة الحركة الوطنية شلّت الحياة السياسية في البلد، ما أدى إلى تدخل الرئيس عبد الناصر وتم التوصل إلى “إتفاق القاهرة” الذي شرَّع الوجود العسكري الفلسطيني وحقه بممارسة الكفاح المسلح عبر الأراضي اللبنانية، والذي ألغاه مجلس النواب عام 87 بمقايضته مع إلغاء إتفاق 17 أيار.
 
بعد الحرب الأهلية شعر الفلسطينيون أنهم يتعرضون للإنتقام من أطراف عدة عبر المجازر التي إرتكبها العدو الإسرائيلي أو رعاها، وحرب المخيمات التدميرية. وكان قدري أن أشارك في ثلاثة محاولات كان يمكن أن تشكل مدخلاً لمعالجة العلاقات الفلسطينية اللبنانية؛
 
 الأولى؛ عندما تقرر بموجب الإتفاق مع فيليب حبيب تشكيل لجنة بمسؤولية الإستاذ شفيق الحوت، وكنت أحد أعضائها للإهتمام بأوضاع الفلسطينيين في لبنان والتنسيق مع الدولة اللبنانية. لكن الجهة التي حُددت للتنسيق معها (أمن الدولة) لم تتحمل وجودنا، ونصحتنا بعد إجتماعين معها بمغادرة البلد، وإعتقلت من لم يستجب للمغادرة وكنت منهم.
 
والثانية؛ عندما جرى لقاء في القاهرة عام 1990 بين وفدين رسميين: لبناني برئاسة فارس بويز وزير خارجية لبنان، وفلسطيني برئاسة فاروق القدومي رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية، وكنت ضمن الوفد (كنت في حينها مسؤول الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وفي نفس الوقت مسؤول قيادة العمل الوطني الفلسطيني، وهو إطار يضم جميع فصائل م.ت.ف في لبنان. وجرى التوصل لإتفاق يمكن أن أسميه خارطة طريق من ثلاثة عناوين: الوجود العسكري، أمن المخيمات، الحقوق المدنية والإجتماعية.
 
والمحاولة الثالثة مع إستلام الشيخ رفيق الحريري رئاسة الحكومة للمرة الأولى، إلتقيته، ولي به معرفة سابقة في حركة القوميين العرب، عرضت عليه التطورات منذ عام 82 وسلمته ملفاً بالوثائق. لكن بدل معالجة الوضع صدرت أخطر القرارات خلالها: حرمان الفلسطينيين من حق الملكية. وإلزامية تأشيرة الدخول إذا غاب الفلسطيني حامل الوثيقة اللبنانية اكثر من 6 أشهر خارج لبنان.
 
كيف يمكن مد الجسور لقيام علاقات صحية بين اللبنانيين والفلسطينيين المقيمين إجبارياً على الأراضي اللبنانية وبوثائق لبنانية منذ العام 1948؟
1. أن تنظر بعض الأوساط التي تأخذ موقفاً سلبياً من الفلسطينيين بعين واقعية وموضوعية،  ما يتيح التعرف إلى حقيقتين: الأولى؛ أن الفلسطيني متمسك بحقه بالعودة إلى وطنه، وهو من تصدى لمشاريع للتوطين والتهجير والتجنيس. أما التوطين فهو فزاعة تستعملها القوى المعادية لأحداث شرخ بين الفلسطينيين واللبنانيين .والثانية؛ أن الوجود الفلسطيني في لبنان ساهم في نمو البلد وتطوره، وإعطائه حق العمل والتملك وهو مصلحة كبيرة للبنان كما للفلسطينيين.
 
2. إن أطماع المشروع الصهيوني لا تقف عند حدود إغتصاب فلسطين، وإنما تمتد من الفرات إلى كامل المنطقة العربية وفي مقدمها لبنان.
3. الأطراف التي تحمل مواقف مسبقة ضد بعضها البعض (فلسطينيين ولبنانيين) لم تفتح أمامها باب الحوار على مصراعيه. أول محاولة جرت بين وفد فلسطيني برئاسة صلاح خلف أبو إياد وكنت عضواً فيه، ووفد من حزب الكتائب برئاسة أمين جميل وعضوية كريم بقرادوني، كان الجو إيجابياً وكاد يصل إلى وثيقة مشتركة، فأتت مجزرة عين الرمانة لتعطل كل شيء.
4. النظر بعين واقعية تنفي ما يُتهم به الفلسطينيون بأنهم أساس المشاكل والصراعات في البلد. ودون عودة للتاريخ… هل هم سبب الوضع الحالي في لبنان؟
5. الكف عن التعامل مع الفلسطينيين بعيون أمنية؛ لأن نتائجه خطيرة ويوتر العلاقات الفلسطينية اللبنانية، ولا يخدم ويوفر التعايش المشترك. الصحيح هو الإتفاق على صيغ للتعاون، وإعطاء الفلسطيني حقوقه المدنية والإجتماعية  بما يتوافق مع المواثيق الدولية كميثاق حقوق الإنسان وحقوق اللاجئ. وبما ينسجم مع ما أعلنه المسؤولون اللبنانيون عندما إستقبلوا اللاجئين ويكررونه دوماً.
 نحن بحاجة إلى مد الجسور بيننا فلسطينيين ولبنانيين، والشرط الأول أن نتخلى عن الأحكام المسبقة ونتعامل مع بعضنا بعضاً بواقعية وموضوعية.