مقال جسور
الحياة الثقافية للمخيم تستعيد نبضها بالعلاقة مع المحيط اللبناني
*باسل عبد العال
عاش مخيم نهر البارد تحولات عديدةٍ، اقتصادية واجتماعيةٍ بحكم خصوصية مكانته الجغرافية الخاصة التي أعطته أبعاداً أخرى، وهي وإن كانت قد افادت من العلاقات التجارية، الا انها وضعته امام تحديات ثقافية. ولا يختلف اثنان في توصيف الأزمة الثقافية، في مكان يفتقد للاستقرار، ومخيم يحمل الصفة المؤقتة، وما مرّت عليه من أحداث وتطورات وحروب بأنواعها العديدة والمختلفة، وكان آخرها حرب 2007 التي أدت إلى تدميرهِ بالكامل.
قبل حرب 2007 في مخيم نهر البارد، كان هناك مبادرات ثقافية عديدة أتت في سياق حركة ثقافية كانت امتداداً للحالة النشطة التي مثلها المستوى التربوي في مدارس الأونروا، وصعود الحالة الوطنية وما رافقها من عمل تأسيسي لنشاطات شبابية وكشفية ورياضية، عبر عن نفسه بممارسة أنشطة ثقافية وفنية وتراثية وأدبية. ثم كان نشوء الملتقى الأدبي الذي كان له الصدى الأوسع في المجتمع. والذي أُعيد تجديده في بداية عام 2000 تحت تأثير انطلاقة الانتفاضة الثانية، حيث كان الملتقى يعقد جلساته الشهرية في ملجأ قديم يحتوي على مكتبة أقيمت بتبرع من مؤسسة التعاون، ويجتمع فيه المثقفون من أبناء المخيم كالشعراء والأدباء والكتّاب. وينظم الأمسيات الشعرية والندوات الأدبية التي تستضيف كتّاباً وأدباءً من أبنائه والجوار اللبناني القريب.
بعد حرب العام 2007 في المخيم، تلك الحرب التي غيّرت ملامحه الاجتماعية والجغرافية والثقافية، والتي أدّت، ليس لتدميره حجراً فحسب، بل دمرت رمزية المخيم الجميلة في أذهان الناس، حيث أخذ المخيم شكلاً واسماً مخيفاً للآخر. من هنا، بادر بعض الشباب المثقف إلى تشكيل أطر ثقافية، تستعيد رمزية وهوية المخيم من جديد، باعتباره حاضنة للمبدعين والمثقفين الشباب. وفيه ثلة هامة من هؤلاء، بعكس ما أظهرتهُ الحرب الوحشية، ومن هذه المبادرات: ملتقى وقهوة سوا في المخيم، الملتقى الثقافي الفلسطيني. وآخرها كانت مركز زاوية “رؤية” الثقافية. هذه المبادرات ساهمت بشكل كبير في إعادة الحياة الثقافية إلى المخيم، وجعلهُ بيئة تهتم بالأدب والفن والتأمل في الحياة، والتمسك بالهوية والعودة إلى الوطن الأول والأخير” فلسطين”.
في ملتقى وقهوة “سوا”، كانت مبادرة جيدة وتجربة أولى في المخيم، حيث يجتمع فيها الشباب المثقف، وتنظم الندوات والأمسيات الشعرية المشتركة بين شعراء فلسطينيين وشعراء لبنانيين من الجوار، من قرى عكار والمنية، والمناطق الشمالية التي تجاور المخيم، وكذلك الأمسيات الموسيقية الدورية المشتركة مع موسيقيين لبنانيين، مثل عزف على العود، وغناء مشترك.
عندما تدخل للمقهى تجد صوراً للأديب غسان كنفاني والشاعر محمود درويش وباسل الأعرج وناجي العلي. وقد ساهمت أجواؤه في خلق بيئة ثقافية لشباب المخيم عامة، بدلاً من اختيارهم للمقاهي المليئة بالفراغ الاجتماعي والروحي بشكلٍ عام. أمّا الملتقى الثقافي الفلسطيني فهو مجموعة من الشباب الشعراء والكتّاب والمبدعين، يجتمعون بشكل دوريٍ في صالون عضو من الأعضاء، ويقرأون نصوصهم وابداعاتهم. وبعد ذلك يبدأ النقاش فيما بينهم. وينظم هؤلاء الأنشطة الثقافية والمسابقات الأدبية في المدارس. هذه الأنشطة تركت تأثيرها على شباب وشابات المخيم الذين كانوا يشاركون في المسابقات وأمسيات الملتقى، وقد تم اكتشاف الكثير من المواهب الواعدة من خلال هذه الأنشطة الثقافية. وآخر المبادرات التي تشكلت منذ فترة زمنية قصيرة، واستمرت إلى الآن، هي مبادرة مركز “زاوية رؤية الثقافية” حيث أدرك الشباب في المخيم أهمية وحقيقة الفعل الثقافي وتأثيره على صورة المخيم ورمزيتهُ، فبادر بعض الشباب الشعراء إلى تشكيلها.
بدأت المبادرة ببرنامج ثقافي أُطلق في شهر رمضان المبارك عام 2019. هذا البرنامج التلفزيوني الثقافي كان على شاكلة برنامج شاعر المليون، لكنّهُ على صعيد المخيم فقط. انطلقت المسابقة بتقديم النصوص الإبداعية من قصص وقصائد، مع لجنة تحكيم من ثلاثة أساتذة من المخيم. وقد عُرض على ستالايت البارد المحلي، بحيث يشاهدهُ أبناء المخيم بعد الإفطار مباشرة، بعد فوز حوالي عشرين موهبة في الشعر والقصة القصيرة وعرض حلقة بحصيلة البرنامج، تمَّ جمع الفائزين العشرين والاتفاق معهم على برنامج ثقافي دوري لمتابعة كتاباتهم والاهتمام بها. بدأت الجلسات والاجتماعات الثقافية أسبوعية، حتى تشكلت المبادرة وأصبحت مركز الزاوية. استأنف هذا المركز عمل برامجه من خلال مشاركة كتّاب المخيم الشباب الذين فازوا بمسابقاته، وبدأ أعضاؤه بإنشاء مكتبة عامة، واعتماد برنامج ثقافي واعلامي دوري، وأصدروا مجلة رؤية الثقافية الشهرية، التي تحتوي على كتاباتهم وابداعاتهم عامة. وصلت المجلة الآن إلى العدد 13. وكان المركز يقيم الأنشطة الثقافية في مسرح الرابطة الثقافية في طرابلس بالشراكة والتعاون مع منتديات لبنانية من الجوار، مثل: منتدى شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحادة الثقافية، وجمعية الوفاق الثقافية، وكان يحضر الأمسيات والأنشطة جمهور من مدينة طرابلس، حيث ينصتون لقصائد شباب وصبايا مركز زاوية رؤية الثقافي من مخيم نهر البارد، وكانوا يتأثرون بصورة المخيم الجميلة التي كانت تغيب عن مخيلتهم أحياناً. بادر البعض إلى زيارة المخيم والمركز، وعقد أنشطة ولقاءات مشتركة بهدف فتح باب الحوار الثقافي مع الشباب الفلسطيني المثقف هناك، مثل: زيارة الشاعرة ميراي شحادة من الكورة وسكّان الأشرفية لمخيم نهر البارد بهدف التعرّف على المركز والمثقفين الفلسطينيين الشباب هناك، وكان لقاءً معبراً وهاماً في المخيم.
هذه المبادرات والأنشطة الثقافية تمثل حقيقة حياتنا وصورتنا في مخيم نهر البارد، وحقيقة المعنى الجمالي لمفهوم المخيم ابن القضية العادلة. لعلّها تعيد بناء ما تهدم من الرمزية المقدسة التي نعمل جميعنا على حمايتها ثقافياً وابداعياً بشتى الوسائل الثقافية المتاحة في ظل هذه الظروف الصعبة التي يعيشها المخيم بشكلٍ خاص، ولبنان بشكل عام. *شاعر وكاتب فلسطيني من مخيم نهر البارد