مقال جسور
الحياد الإيجابي احتراماً للخصوصية اللبنانية

* كاتب وروائي فلسطيني
“أيها الحاضر تحملنا قليلاً.. فلسنا سوى عابري سبيل ثقلاء الظل”!
محمود درويش
أحجم الفلسطينيون عن المشاركة في الاحتجاجات الشعبية اللبنانية التي انطلقت في17 تشرين الأول /أكتوبر، في موقف سياسي وشعبي أجمعت عليه الفصائل والقوى والفعاليات الوطنية كافة، باعتبار أن هذه التحركات تتعلق بالسياسة الداخلية التي تنحصر بعلاقة المواطن اللبناني مع دولته. ورغم معاناة اللاجئ الفلسطيني من إستبداد القوانين اللبنانية التي تسد عليه دائرة الحياة والعيش، إستطاع أن يفرّق بين الحس السياسي والممارسة السياسية، وفي هذه الحالة بين التضامن العاطفي والمشاركة الفعلية.
نسبية الحياد في الدعم الشعبي، إحترام الخصوصية اللبنانية، وتفهُّم دور الخصوصيّة الفلسطينية في تعزيز البيئة الإيجابية، وتأصيل الروح الوطنية، جعل التعاطف مع صرخة المواطن اللبناني أمراً منطقياً، فهو يشاركه معاناة الظلم ذاته، والظلم ليس له جنسية أو مذهب أو طائفة، وإن فضّل اعتماد السياسة الايجابية في التعاطي مع التحركات، ولم يكن ذلك من الموقع السلبي، بل من موقع الحرص على نجاحها. فالمتربّصون بها كثُر، ومنحها القدرة على تظهير نفسها وهويتها من دون إحراج أو شبهه، والتعبير عن الإرادة الشعبية الذاتية من دون تلويث أو لوائح اتهام مسبقة، هو لمصلحة تحقيق مطالب الشعب اللبناني المحقة، لأن فيها مصلحة للشعب الفلسطيني اللاجئ في لبنان أيضاً.
يأتي ذلك في سياق السياسة الفلسطينية المعتمدة في لبنان منذ اتفاق الطائف، والتي تعتبر الوجود الفلسطيني في لبنان قسرياً ومؤقتاً، يلتزم الحياد الايجابي الذي لا ينحاز فيه الفلسطيني إلاّ للسلم الأهلي والاستقرار، وحين يتربّص الخطر بالجميع فهو لن يكون متفرجاً على ما يتهدّد لبنان، ولن يقف مكتوف الأيدي إزاء أي تخريب داخلي يؤذي لبنان والهوية والقضية.
حصيلة التجربة التاريخية اللبنانية – الفلسطينية المشتركة، تجعلنا نتعلم الكثير، نظراً إلى وضع تتداخل فيه الخصوصيات، في بلد تحكمه التوازنات الطائفية وليس موازين القوى. وهذه البنية المركّبة بحساباتها المفرطة الحساسية، أثرت سلباً على الوجود الفلسطيني في لبنان الذي نال نصيبه المضاعف من الظلم الثلاثي الأبعاد، السياسي والإجتماعي والإقتصادي. لذلك كانت العلاقات المشتركة في اتجاهين:
الأول: حالة الصعود الفلسطيني الذي حضر مع ارتفاع وتيرة الإحساس بالظلم والتهميش والقهر قبل عام1969 ، هو الذي جعل المخيمات تنتفض على الواقع، وليس العكس، وإن كانت هناك تداخلات داخلية وخارجية قد بررت نفسها حينها وعزتها إلى الواجب الوطني، والسعي المشترك إلى حفظ الكرامة والهوية والإنسانية. وحينها استعان الفلسطيني اللاجئ برمزية الفدائي، الذي جسّد صورة الحلم بالوطن والثورة في سبيل العودة إليه، فكان الإنتقال عبر التغيير من “الطبقة السياسية التقليدية والعشائرية” التي سادت في المخيمات آنذاك، إلى صيغة تمثيلية جديدة أدارت شؤونهم الحياتية من منظمة التحرير الفلسطينية وهياكلها الشعبية والفصائلية.
الثاني: قوى التغيير اللبنانية الوطنية والقومية، الطامحة إلى إحداث التغيير، معززاً بحضور العامل الفلسطيني بعد العام 1969. وقسم من اللبنانيين وقف على النقيض من هذا الخط، ولم يغفر للفلسطيني إنحيازه إلى مشروع الإصلاح السياسي للنظام اللبناني والذي قادته الحركة الوطنية اللبنانية آنذاك. إنتهت الحرب ولم تنته ذيولها. وظلّ الدرس ماثلاً في أنّ كل صراع داخلي من أجل التغيير والاصلاح يقاد بقواه المحلية فقط، وأي إستعارة تكون نتيجتها الخيبة للطرفين.
إستدعاء الماضي هنا ضرورة في سبيل الحاضر ورسم سياسة للمستقبل، لأنّ هناك من لم يبتعِد بعدُ عن خِطاب الماضي، في بلد مثقل بتبعات الحروب والإنقسامات الأهلية، وما بروز منطق إتهام “الغريب” كشماعة يُعلّق عليها الثياب الوسخة، فأصل وسبب الخراب هو الغير، أما الحل على قاعدة “لا غالب ولا مغلوب” فما هو إلاّ نموذج لما يسمى منطق الإحالة؛ وتندرج في اللغة ذاتها نغمة “حروب الآخرين على أرضنا” الذين هم الغرباء أو الضيوف غير المحترمين! كل هذه ليست إلاّ نماذج قليلة ومستعادة من زمن مضى وبقيت ظلالها الوخيمة قابعة في زوايا الذاكرة. تأخذ شكل الإسقاط النفسي بالهروب من الأزمات الداخلية، أو تبحث عن “كبش فداء” في الدفاتر القديمة.
ندرك حجم الضغوط التي تستهدف البلد وفي ظل انقسامات شديدة الوضوح، وهي غير منفصلة بالمعنى الحسابي عن استهداف القضية الفلسطينية، كما هي الأزمة الوطنية الفلسطينية نفسها، والتي تعاني هي الأخرى من انقِسامات عمِيقة، رغم ذلك رفضت إغراء الإنغِـماس مجدّداً في لُـجَجِ الصِّراعات الداخلية اللبنانية، أو أن يكونوا عود ثقاب أو بيدقاً من بَيادِق الصراع المذهبي والطائفي. ولم يفعلوا، وهذا يسجّل لهم!
وقد أتى الغضب الشعبي الفلسطيني على قرار وزارة العمل اللبنانية الأخير في الحكومة المستقيلة، وهو مثال على سياسة ضيق الافق، لأنه طال أمان اللاجئ بعد أن نزعت عنه هذه الصفة. ولمن يدري أو لا يدري، فقد ورد ذلك في النص الرسمي لما يسمى “صفقة القرن” عندما تحدثت بلغة مسمومة خبيثة عن وضع اللاجئ الفلسطيني في لبنان وإجراءات إغلاق سوق العمل أمامه! كل ذلك يطرح الحاجة الوطنية للقاسم المشترك والاستراتيجية الواحدة لدرء الأخطار المحدقة من توطين وتهجير، ومعاندة كل ما يضعف المناعة الوطنية في مواجهة التحديات؛ وللتأكيد على ضرورة إقرار وثيقة الرؤية المشتركة للعلاقة اللبنانية – الفلسطينية.
إيجابية السياسة تلك، تنطلق من حكمة أساسها تجربة غنية متصالحة مع ذاتها قبل الآخرين، وتسعى لتُعالَج الحقوق الفلسطينية بطريقة لا تشعل فتناً جديدة في لبنان، ولا يختلط فيها الحابل بالنابل، ويتحوّل الفلسطيني إلى مشجب يتحمّل فيها مسؤولية الفلتان والفوضى والتخريب، وتعلّق عليه أسباب الأزمة القائمة، كي تُستخْدَم ذريعة لحِرمان الفلسطينيين من إنسانيتهم بما يؤثر على وجودهم وحقّ عودتهم.
مع الإشارة الى نسبية هذا الحياد في الدلالات غير المباشرة مع التحركات الشعبية اللبنانية، إلاّ أنّ ذلك لا يجعلنا نغفل استحالة “الحياد الإستراتيجي”، الذي يرافق إستفحال الأزمات الاقتصادية كإيهام بأنّ فيه الترياق والحل السحري للأزمة! هذا الحياد المقصود والملتبّس هو حياد معاكس أي إنحياز مقنع، لأنه بالدرجة الأولى يهدف إلى الخروج من الصراع، الذي نعرف مقدماته وأبعاده المحكومة بشروط موضوعية وليس بنزعة إرادية، بهذا المفهوم السلبي للحياد المرفوض، لأنه دعوة إلى الإنسلاخ التدريجي عن قضية فلسطين وعن التضامن العربي معها والسماح باستباحتها.