مقال جسور
الشباب الفلسطيني أسير الماضي ورهينة المستقبل

*باحثة ، أستاذة في علم الاجتماع، مشاركة في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى
يعيش الشباب الفلسطيني في الحاضر، ولكنه أسير الماضي ورهينة المستقبل. وهذا يمكن معالجته بطرق عدة، أهمها، بناء منظومة جديدة سياسية شعبية وشرعية، تساعده على بلورة هوياته الفردية والجماعية التي تعيش أزمة منذ إنهيار المشروع الوطني الفلسطيني. فكلّ ما تعيشه اليوم المخيمات الفلسطينية والجيل الجديد، هو أزمة عملية بلورة هويات كانت تتمثل بالمشروع التحريري.
إذ في ظل الخلل في القيادة السياسية الفلسطينية في المخيمات وفي ظل أزمة التمثيل السياسي، لا يوجد اليوم نظام شرعي شعبي مبرر لوجوده وله الحد الأدنى من “الاستعداد للطاعة” من قبل الشباب، كما ذكر ماكس فيبر عن أشكال الهيمنة أو السيطرة. وفي غياب أي شرعية للسيطرة السياسية والثقة بهذه الشرعية، يطرح الشباب اليوم أسئلة وجودية تتمحور حول: المسألة الأخلاقية، الخير والشر، الإنسانية واللاإنسانية، السؤال الروحي والمعنى الوجودي والحياتي. لهذا السبب، فإن العديد من الشباب يدعون إلى الحفاظ على قيم المجتمع وتقاليده، كنوع وحيد وممكن للشرعية التي تخلق لدى هؤلاء الشباب إرادة الطاعة، بعد انهيار الهيمنة الكاريزمية لنظام ياسر عرفات وفقدان الهيمنة العقلانية أو القانونية. ربما تجد هذه القيم نفسها في بعض الأحيان في الحركات الإسلامية تحت لواء المقاومة، بحيث هي الأقرب إلى شرعية ثابتة رغم تأويلها المختلف، ولكنها ثابتة مقدسة، غير مرئية لا يمكن العبث بها.
بعيداً عن اللوم وعن تحميل المسؤوليات لجهة أو أخرى فلسطينية كانت أم لبنانية، أردت التركيز على الهويات الفلسطينية من منظور علم الاجتماع في سياق اللجوء. بمعنى آخر، فهم العلاقة الجدليّة بين الهوية الشخصية والهوية الاجتماعية والذاكرة والفضاء، أي المخيم في حالة اللاجئين الفلسطينيين. ففي علم الاجتماع، مفهوم الهوية هو مفهوم جدلي حيوي وليس جامداً، وهو مفهوم متعدد البعد، ومختلف المعاني. فهو مفهوم حامل لعلامات ومعاني عديدة ومختلفة بين المجال الفردي والمجال الإيديولوجي الذي يتمثل بالقومية في كثير من الأحيان. فالهويات تتألف من تعدّد الخبرات في الحياة، وهي تتغيّر وتتبدّل وتتأزم وتتحرّر في تفاعل مع الآخر، كبناء الذات وأزمة الهوية مثلاً، والمجال الاجتماعي والسياسي كالمطالبات بالهوية، والصدمات النفسية.
في الواقع الفلسطيني كأي واقع آخر، من أهم ما يوحِّد الجماعة حاجات الوجود وطبيعة القضية. هذا الواقع يبني التمثيل الذاتي والهويات الجماعية التي يشارك ويتمثل فيها جميع الأفراد، مما يقوّي الارتباط بينهم، كونهم جزءاً من كلّ، دونه هم لا شيء. وتلعب هذه الجماعات دوراً في تشكيل التصوّرات والهويات للفرد.
تتكوّن هذه الهويات الفردية والاجتماعية من خلال الظروف المعيشية واليومية، وعناصر رمزية مثل الذاكرة الجماعية، والأمّة، والأيديولوجية. تشكل الذاكرة عاملاً حيوياً ومؤثراً مهماً في حالة اللجوء. وفي حالة اللاجئين الفلسطينيين، ترتبط الذاكرة مع حق العودة، فتصبح مرادفاً له. وتندرج هذه العناصر في سجل يمكن تسميته “التاريخ”. يمكن إضافة سجلات أخرى مكمّلة للسجل التاريخي مثل الدين والثقافة واللغة، حيث يمكن اعتبارها متداخلة وتحمل رموزاً مهمة.
غير أنه لا يمكن معالجة الهوية على أساس فردي من دون النظر إلى العوامل الإجتماعية والسياسية في تكوين الهوية. ففي الواقع، هناك تفاعل جدلي دائم بين الفرد والذات والثقافة الاجتماعية والسياسية في تكوين الهوية الاجتماعية. فعندما نتحدث عن “اللاجئين الفلسطينيين في لبنان” في صيغة المفرد، نعني فعلياً مجموعة انتماء، ربما مجموعة محددة جداً بالرغم من تنوعها، من دون الأخذ في الاعتبار أن الهوية الاجتماعية للفرد تتبدل، وتكوّن الذات المتبدلة وتتأثر بالخبرة الجماعية (حقيقية أو رمزية) في مساحة مشتركة (المادية والمثالية) وتكون في غالب الأحيان مقيّدة بقيم ومعتقدات الجماعة.
في الواقع الفلسطيني، تبلورت الخبرة الجماعية عملياً والمساحة المشتركة والمعتقدات في أبرز وجه من وجوه الهويات الجماعية وهو المشروع الوطني الفلسطيني. أما اليوم فهذه الخبرة المنقولة ليست إلاّ نظرية تنتقل بين العائلات والأفراد والمجموعات مع انهيار هذا المشروع. اذ لم تعد هناك بيئة ومساحة صحية وجماعية لبناء مشروع جماعي مجتمعي سياسي حالي مع الشباب الفلسطيني. وأصبحت بطبيعة الحال الهويات الفردية منهكة لأنها لم تبرز إلاّ من خلال هذه الهوية الوطنية التي هي اليوم أسيرة الماضي. لذا على الجهات الفاعلة والعاملين حالياً مع الشباب الفلسطيني، التكاتف لبناء بيئة ومساحات صالحة لتنمية القدرات الفردية للشباب الفلسطيني في إطار قانوني حقوقي، والعمل على الذاكرة والتاريخ والحاضر والمستقبل معاً. لإخراج الشباب من الماضي وتأمين تصور مشروع حياة لكل فرد، وبناء أمل مكان الخيبة واليأس في انتظار انخراطهم في مشروع تحرّري، سياسي ووطني جديد. حالياً الشباب مقيد بالماضي والذاكرة، وهذا ما يؤدي إلى هويات ملتبسة تمتص كل مشروع حالي يعرض عليها. غير أن أغلبية هذه المشاريع لا تشمل الحاضر إلاّ من خلال الماضي عوضاً عن مشروع للمستقبل.
لذا ينبغي تزويد الشباب بفرص لجمع وتحليل تجاربه، وهذا لا يتم في لقاءات رسمية حيث يأتي خبير للتنظير ونشر المعرفة، ولكن من خلال أماكن لتبادل المعرفة والتفاعل. ينبغي أن تؤدي هذه العملية إلى بداية التخطيط للعمل، وتنظيم الإجراءات الواقعية من منظور تاريخي للتغيير الاجتماعي، بالتوافق مع تحليل الأسباب، وفي التطبيق العملي الذي يُربط العمل دائماً بالتفكير لتجنب الأنشطة غير المنتجة، وتطوير مشروع مجتمعي يسمّيه الشباب أنفسهم. وأن عليهم أن يدركوا أهمية العمل اليومي بالتوافق مع هذا المشروع، والذي سيصبح هدف العمل.