مقال جسور
!الشمس في غرفة مغلقة

شذى عبد العال*
يوم قابلت صحافية فرنسية في مخيم شاتيلا، تنوي تنفيذ مشروع كتاب مصوَّر، يوثِّق وجوهاً شعبية تحكي سيرة المخيم. سألت عن السبب الذي يجعلها مهتمة بنا لتأتي من مدينة ليل الفرنسية وتسكن مع عائلة في المخيم في ظل أزمة اقتصادية وصحية وسياسية كالتي يعيشها البلد؟ أجابت: الذي يجمعنا أنا وأنتم، ذلك المشترك بيننا هو “الإنسانية”!
قلت: أرجو أن تبحثي جيداً عن الانسانية. لا أعرف أين يمكن العثور عليها. الانسانية تعني أنْ يتم التّعامل معك كإنسان، كي لا يمارس القاتل هوايته ويفلت من العقاب! المخيم لم يفلت من الدمار في الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 واستنزفته الحروب الاهلية، تشوهت جثته ولكن المخيم لم ينتهِ، وعاد ليكمل بحكايات الشباب وإعادة بناء كل ما ابتلعته المجزرة.
اخبرتها عما أفاد به المهندس ناجي دوالي مسؤول اللجنة الشعبية الحالي، من أنه في عام 1989 شكلت منظمة التحرير لجنة من المهندسين وهو منهم بينهم لإعادة إعمار المخيم “خلال سنتين قمنا ببناء طوابق ارضية لنحو 63 منزلاً، وتمديد شبكة كهرباء ومياه وصرف صحي من تمويل الجهات المانحة. بعدها جرى تقصير من قبل منظمة التحرير والاونروا وتوقف التمويل. بعد 1995 وإعمار جزء من المخيم، عاد أهله، ومعهم جنسيات أخرى تبحث عن مأوى، بسبب رخص الإقامة. انطلق البناء العشوائي، وإضافة الطوابق العالية دون قواعد هندسية، ودون مراقبة من الدولة، ما أدى إلى تزايد البيوت الآيلة للسقوط، رغم وجود لجنتين شعبية، ومن فصائل العمل الوطني الفلسطيني وسواها، وكلها مسؤولة عن هذه النتيجة”.
مخيم شاتيلا أصبح خيمة ومأوى ومحل إقامة رخيصة يتسع للنازحين والمهمشين والفقراء والعاملين، رغم ان تعداد سكانه الذي أشرفت عليه لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني سنة 2017، هو 14010 فرداً يقيمون بين أزقته، ثلثهم من الفلسطينيين اللاجئين في لبنان، وأكثر بقليل من نصفهم من السوريين. ومع ذلك هناك دوماً فسحة أمل ليوم جديد. المخيم يزدحم بكل شيء، بالسكان والبيوت التي تطفو على مياه المجاري المكشوفة. اسلاك الكهرباء المتشابكة بطريقة عنكبوتية، مخيم في غرف مغلقة، معتمة ورطبة. ومع ذلك هناك حكايا الناس المنبوذين والمهمشين والممنوعين عن العمل. نسبة عالية من المتعلمين واليد العاملة الكفوءة بلا عمل. صور اليأس التي تولّد القلق والنزيف والهجرة والآفات الاجتماعية كتعاطي المخدرات وغيرها. لكن الوجه الاخر للصورة هي الوجوه والروح الشبابية التي تبحث دائما عن الأسئلة والتغيير.
قالت: قبل سنتين زرت شاتيلا وشاهدت كيف يتم كسر الصورة النمطية، هل مازال الشباب يقرعون جدران الخزان؟
نعم، لكن الشمس لا يمكن أن تؤسر في غرفة مغلقة كما كتب غسان كنفاني. لكن في المخيم من يزرع الكلمة والبسمة والفن والحرف والصورة والأغنية والقصيدة والقصة، دوماً هناك من يجيد صياغة المبادرات الفردية وصقل المواهب الشبابية مثال فاطمة غزاوي، كاتبة من المخيم، التي من خلال قصتها التي تُرجمت الى الانكليزية، نجحت في نشر صورة المخيم الجميلة. المخيم بات يسافر عبر السوشيال ميديا، من استديو بسيط في المخيم، بمعدات عادية يسعى كل من لديه فكرة جديدة مبدعة إلى إخراجها للضوء. يشرح ناصر طنجي، مؤسس الاستديو”: لدينا أفكار، ولم يستطع أحد مساعدتنا في التنفيذ. أسسنا الاستديو لمساعدة الشباب وخاصة طلاب الاعلام في الجامعات على تحويل مشاريعهم إلى حقيقة، لذلك نوصل رسالة المخيم بالاعتماد على الذات ولا تمويل من احد.” والمخيم يحتاج إلى مساحات تتسع لأحلام الشباب، حين تكتم أصواتهم تعبيراً عن الاصرار على الحياة، الصورة ستنطق رغم الجدران المتهالكة نحو المعارض العالمية.
لا مساحات متوفرة يعبر فيها الأطفال عن طاقاتهم وأفكارهم داخل المخيم. لذلك أسس محمود هاشم “الحنون” مركز الشطرنج الفلسطيني ويستطيع الاطفال من خلاله تنمية مواهبهم الذهنية ويبتعدون عن هموم محيطهم الهش.
ينشغل المخيم بتفاصيل حياته اليومية ولقمة عيشه التي باتت ضئيلة بسبب البطالة وبمعاناته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. الا أن فلسطين لم تغب عنهم يوماً، والتراث يورث للأجيال من خلال الفن والثقافة. فرق الدبكة في المخيم تتنافس على حفظ هذا الإرث. فرقة البيادر للفنون الشعبية الفلسطينية واحدة من الفرق التي تتمسك به وتضم مختلف الفئات والاعمار “وأكثر من جنسية”. يقول محمد الظاهر أحد الدبيكة في الفرقة ” منذ كان عمري 14 وأنا في الفرقة والآن عمري 20. الدبكة تعلمنا الاصرارعلى تراثنا وهويتنا، وتجعلنا نثبت للعالم أن لنا حق الحياة. شاركنا في العديد من المناطق والمدن خارج المخيم، في البقاع وصور والجامعات اللبنانية. هذا الاندماج يشعرنا بروح الوحدة”.
مشاريع زراعية أيضاً فوق أسطح المخيم، لينبت الزهر وسط هذه العشوائيات. وعلى جدران البيوت الرطبة والمشققة، هناك ألوان الحياة التي يستحقها الناس. تغيّرت صورة الخيمة المظلمة إلى خيمة تتحدى الجبال العالية لجلب الشمس، لكنّ المحاولة تصطدم بالواقع المرير. فالشمس أعلى ممّا ظنّنا، كما ليس بالإمكان الإمساك بها.
قالت الصحافية الفرنسية: لكن تحدي الانسانية أعلى من الجبال. الصورة التي ألتقطها في شاتيلا، تخلع باب الغرفة المغلق وتجعله مشرعاً على الانسانية جمعاء.
لكن المقارنة ظالمة، هزت رأسها ورددت عبارة غسان كنفاني “لن تستطيعي أن تجدي الشمس في غرفة مغلقة!.”
*صحافية وفنانة فلسطينية