مقال جسور
الصراع الجغرافي والديموغرافي في مدينة القدس وحولها: صراع على الارض والسيادة عليها
الصراع الجغرافي والديموغرافي في مدينة القدس وحولها:
صراع على الارض والسيادة عليها
خليل التفكجي*
يمكن وصف الصراع على مدينة القدس بانه صراع على الارض والسيادة عليها. وفي نفس الوقت هو صراع على الرموز، والشكل، والمظهر، والعلم الذي يرفع على مبانيها، واسوارها. وصراع على الرواية، ومحاولة مستمية لفرض الأمر الواقع على الأرض من جانب واحد، على مختلف الأصعدة. حيث يمكننا القول إن الوضع العام يشهد مرحلة متقدمة من خواتم الامور. حيث تتواصل السياسة الاستيطانية الإسرائيلية من خلال إقامة المشاريع الاستيطانية، ومصادرة الأراضي، وتهويد مدينة القدس، وعزلها عن الضفة الغربية بإقامة جدار الفصل العنصري، والاستمرار في محاصرة القرى والمدن الفلسطينية، وعزل غور الأردن. ومنع المصلين من أداء صلواتهم في قاعاته، وتحديد أعمار المصلين منهم، وهدم منازل الفلسطينيين في المدن والقرى بذرائع مختلفة، وترحيل البدو من أماكن سكناهم وإبعادهم عن مصادر رزقهم.
وتكشف التقارير السياسية والاقتصادية التي تصدر كل عام عن تّمسك الإسرائيلي بالاستيطان، ومضمون الحل والسلام الذي يسعى إلى تحقيقه، بما هو سلام المنتصر والمهزوم، السيد والعبد، الضعيف والقوي، المهيمن والخاضع. وفي ظل الثنائية المتناقضة، يدعي أنه يمد يده للسلام. وفي الجانب الآخر الموازي يدمر إمكاناته. وهكذا تقدم إسرائيل نفسها أمام العالم “على أنها ضحية وبحاجة ماسة لإجراءات حماية استثنائية على الرغم أنها دولة محتلة قوية ومدججة بالسلاح”.
الاستيطان في القدس
استمر الاستيطان في القدس على الرغم من الإدانات الدولية التي توجه إلى اسرائيل. وفي تحليل قدمته وكالة (رويترز) أن اسرائيل تواجه أزمة بسبب المستوطنات في ظل انتقادات دبلوماسية متزايدة. وقد تلقت اسرائيل باستمرار نقداً شديداً من الامم المتحدة والاتحاد الاوربي، خصوصاً مع الاعلان عن بناء الالاف من الوحدات السكنية على الأراضي التي يفكر الفلسطينيون في إقامة دولتهم عليها[1]. وقد أجاب رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق نتنياهو على فكرة تجميد البناء بالمستوطنات قائلاً: إن “الحكومة برئاسته لن تخلي مستوطنات في القدس والضفة الغربية خلال ولايتها”، معتبراً أن عهد تقديم التنازلات من هذا القبيل قد ولّى إلى غير رجعة”. كما رفض فكرة إعادة تجميد البناء في المستوطنات قائلاً “إن تجربة حكومته الحالية على الصعيد السياسي اثبتت بطلان خطوة كهذه، نظراً لان قضية الاستيطان من نتائج النزاع مع الفلسطينيين وليس من مسبباته[2]. وفي تصريح آخر أعلن عن رفضه إقامة دولة فلسطينية، وتحدث عن نوع من الحكم للفلسطينيين. وأكد على مواصلة البناء في مستوطنات القدس الشرقية والضفة الغربية،مشدداً على أنه طالما كان رئيساً للحكومة لا اريد ان اسيطر على الفلسطينيين، ولن أجعلهم مواطنين في دولة اسرائيل، كما أنني لا أريدهم رعايا. لذا سيكون هنالك نوع من الحكم في اطار منزوع السلاح[3]. وفي ذكرى احتلال مدينة القدس الخمسين وصف نتنياهو”القدس بأنها “قلب الامة الذي لن يقّسم”[4]. اما زعيم حزب العمل يتسحاق هرتسوغ فقد قال”إن كان لليهود من قلب فالقدس هي قلبهم، وهي العاصمة الابدية للشعب اليهودي ولإسرائيل”[5]. وقد استمر البناء الاستيطاني في مدينة القدس سواء اكان بالمصادقة على المخططات لتوسيع مستعمرات قائمة، أو المصادقة على مخططات لاقامة مستعمرات جديدة، سواء أكان ذلك داخل مدينة القدس أو خارجها لإقامة القدس الكبرى، التي أخذت بُعداً امنياً وسياسياً وجغرافياً وديموغرافياً لتحقيق الاهداف الموضوعة ضمن الاستراتيجية الاسرائيلية بان القدس عاصمة لدولة واحدة دون شريك فلسطيني. وهي السياسة التي لم تتغير ويتابعها خلف نتيناهو بينيت وحكومته.
إن التغيرات التي طرأت على القدس منذ عام 2000 هي أوسع وأعمق جذوراً مما يمكن تصوره، فلم تعد القدس المدينة التي كانت في تسعينيات القرن الماضي، عندما بدأ الاسرائيليون والفلسطينييون التفاوض حول مصيرها للمرة الاولى. مما عقَّد مهمة تقسيم القدس وفقاً للصيغة التي اقترحها الرئيس (بيل كلنتون). لقد فرضت الحكومة الاسرائيلية وقائع على الارض خلال السنوات والعقود الماضية، حتى بات شائعاً القول في بعض الاوساط إن التقسيم لم يعد قابلاً للتنفيذ، بالنظر إلى تسارع بناء المستوطنات والشكل التي اتخذته هذه السياسية. وفي الوقت نفسه جرى توسيع البؤر الاستيطانية داخل الأحياء الفلسطينية التي منعت طرح فكرة التقسيم مرة أخرى (رأس العمود، جبل المكبر، الشيخ جراح). تنفيذاً لمشروع شارون الذي وُضع عام 1990 لاقامة (26) بوابة حول القدس. كما أن التوسع الاستيطاني والبؤر الاستيطانية يرفع الكلفة السياسية للتقسيم، وبالتالي يقلل من احتمال حدوثه، كما أن التغييرات التي طرأت داخل الدولة العبرية وصعود اليمين الاسرائيلي المتطرف، صعَّد المطالب الدينية والتاريخية حول المدينة مترافاً مع بدء التقسيم الزماني والمكاني للأماكن الدينية. وحالما تستأنف المفاوضات، تكون اسرائيل قد خلقت أمراً واقعاً يصعب تغييره، وسيكون على كلا الطرفين الانفتاح على “حلول خّلاقة” تنسجم مع هذا المناخ الجديد.
نظرية تفتيت الأحياء
تضع السلطات الاسرائيلية نصب أعُينها القضية الأمنية للسيطرة على الحيز. وكانت تجربة الانتفاضة الاولى والثانية وقضية البوابات محط دراسة معمّقة من قبّل الأجهزة الامنية، على إعتبار أن التواصل الجغرافي الفلسطيني للأحياء العربية يؤدي إلى خلق نواة صلبة أمام أهداف السلطات الاسرائيلية بالسيطرة على الحيز والسكان. فكان برنامج تقطيع الأحياء الفلسطينية ضمن أهم أهدافها ليسهل السيطرة عليها ضمن قانون (التطويق)، بما هو تطويق الأحياء بالمستعمرات،(والاختراق)، من خلال إقامة البؤر الاستيطانية داخل الأحياء العربية. (والتشتيت) بما هو تحويل الأبنية والحيز الجغرافي إلى فسيفساء داخل الأحياء اليهودية. وقد نجحت في هذا المضمار إلى حدٍ كبير في قرية بيت صفافا التي تقع إلى الجنوب الغربي من البلدية القديمة. والآن يجري تطبيق هذه النظرية في حي الشيخ جراح بإستخدام قانون الاملاك اليهودية قبل عام 1948. ويهدف هذا المشروع إلى ربط منطقة جبل المشارف (سكوبس)، وهي أراضٍ إسرائيلية تقع ضمن حدود الاردن بين عام (1948/1967) ضمن إتفاقية الهدنة والتي كانت سابقاً معزولة. وبالتالي ربطها مع القدس الغربية عن طريق ربط البؤر الإستيطانية التي إقيمت في المنطقة (كرم المفتي) كإستملاك للمصلحة العامة، والشيخ جراح، مع منطقة (كبانية إم هارون) الملاصقة للخط الأخضر، وبالتالي تحويل حي الشيخ جراح إلى أجزاء صغيره يسهل السيطرة الامنية عليها. وفي هذا السياق جاءت منطقة بطن الهوى في منطقة سلوان عن طريق الربط الديني (المقبرة اليهودية) في جبل الزيتون، وإرتباطها بالاسطورة اليهودية والمسيح المنتظر، مع إقامة أكبر بؤرة إستيطانية في رأس العمود. والدخول عن طريق البؤر التي تمت إقامتها بطرق مختلفة، لتصل إالى منطقة الحوض المقدس (التاريخي) بمدينة “داؤد” وقبور الانبياء لتحيط بأسوار البلدة القديمة من الناحية الجنوبية. ويتم إيصال هذه المنطقة بحائط البراق. وبالتالي تحقيق اكثر من هدف. الأول ربط المناطق التاريخية (مدينة “داؤد”) مع المناطق الدينية (حائط البراق)، وثانيها تفتيت الأحياء العربية وتمزيقها إلى أحياء صغيرة متناثرة وضبطها أمنياً، وثالثها وهو الأهم السيطرة الكاملة على الحوض التاريخي وفرض أمر واقع أمام أي مباحثات سلام مستقبلية. وهكذا نرى بأن السياسة الاسرائيلية إتجاه المدينة واحدة، سواء أكانت الحكومات يسارية (حزب العمل) أو يمينية. بإعتبار أن القدس الموحدة عاصمة أبدية للدولة العبرية وهي الرأس والقلب للشعب اليهودي. أما الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، فليس لها وجود في الرؤية الحزبية، بل إن إتفاق عام 2015 في الاردن بين الملك عبد الله (ملك الاردن)، وجون كيري (وزير الخارجية الامريكي) وبنيامين نتنياهو (رئيس الوزراء الاسرائيلي) اعتبر أن عاصمة فلسطين هي (قرية بيت حنينا) التي تقع إلى الشمال من المدينة. وعلى ضوء ما سبق ذكره تفرض الحكومية الإسرائيلية أمراً واقعاً في داخل المدينة، وتسابق الزمن لوضع رؤيتها حول المدينة بالسيطرة على ما تحت الأرض (الأنفاق)، وما فوق الأرض (الإستيطان)، وفي الفضاء إقامة خطوط (تلفريك)، للوصول إلى الهدف المعلن وغير المعلن بأن القدس شرقها وغربها عاصمة لدولة واحدة ومن دون أي شريك فلسطيني.
* مدير دائرة الخرائط ونظم المعلومات الجغرافية / بيت الشرق وخبير خرائط مدينة القدس
[1] جريدة القدس 7/2/2013.
[2] وكالة معاً الاخباريه 18/1/2013.
[3] جريدة الايام 21/1/2013.
[4] خطاب نتياهو بتاريخ 27/5/2014.
[5] خطاب هرتصوغ في إحتفال الكنيست 28/5/2014.
جسور / العدد 8