مقال جسور
العلاقات اللبنانية – الفلسطينية بين الحقوق والواجبات

محمد دهشة
صحافي وكاتب فلسطيني
لم تمنع الازمات الاقتصادية والمعيشية الخانقة التي تحاصر لبنان من كل حدب وصوب من المضي قدما في محاولة بلسمة جراح اللاجئين الفلسطينيين المزمنة. سياسة جديدة انتهجتها الحكومة اللبنانية عبر “لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني” برئاسة الدكتور باسل الحسن، التي اتخذت قرارًا بتشكيل “لجنة من الوزارات اللبنانية المعنية بالشأن الفلسطيني وخاصة الخدماتية منها مثل: الصحة، التربية والتعليم، العمل والشؤون الاجتماعية، كخطوة على الطريق لتحقيق الهدف، بعدما كشف آخر إحصاء غير رسمي، بأن أكثر من 80 بالمئة من أبناء المخيمات، باتوا تحت خط الفقر المدقع نتيجة الازمات اللبنانية وطول أمدها.
استضاف لبنان الرسمي والشعبي طوعا اللاجئين الفلسطينيين عام نكبة فلسطين 1948، وقدم لهم الايواء والاغاثة، لكنه تعامل معهم بطريقة أمنية بحثة دون تنظيم شؤون حياتهم على قاعدة الحقوق والواجبات، فمرت العلاقات اللبنانية – الفلسطينية منذ ذلك الحين بمراحل من المد والجزر، الفتور والخلاف، الوئام والصراع، وبلغت الخلافات ذروتها ابان الحرب الاهلية اللبنانية، قبل ان تشكل ثلاثة مراحل بداية للتحول الكبير في العلاقة الثنائية…
– المرحلة الاولى: في اتفاق الطائف (30 أيلول 1989) هو الاتفاق الذي شمل الأطراف المتنازعة في لبنان بوساطة سعودية، حيث تم إقراره بقانون (22 تشرين الأول 1989) مدخلا لانهاء الحرب الأهلية اللبنانية وذلك بعد أكثر من خمسة عشر عاماً على إندلاعها رغم انه لم يحدد بوضوح كيفية التعامل الرسمي مع اللاجئين الفلسطينيين واكتفى بالتأكيد الجازم على رفض التوطين.
الثانية: مع بدء تنفيذ الاتفاق نفسه وانتشار الجيش اللبناني وخاصة في منطقة صيدا في تموز عام 1991، ليضعه على حدود المخيم، فتمركر عند مداخله دون الدخول اليه، وبقيت المخيمات على حالها ورقة انتظار وضغط، بعدما تراجع النفوذ العسكري الفلسطيني وانكفأ اليها، مع حل الميليشيات لبنانيا وسحب سلاحها الثقيل كما سحب السلاح الفلسطيني الثقيل والمتوسط من دون الفردي، فبقي السلاح مشرعا داخل المخيمات ينتظر حلا دوليا للقضية الفلسطينية وعنوانا للدفاع عن حق عودة اللاجئين الى ديارهم وفق القرار الدولي 194.
والثالثة: بعد توقيع اتفاق “أوسلو” بين “منظمة التحرير الفلسطيبنية” والكيان الصهيوني في أيلول عام 1993 ليحول الاهتمام إلى الداخل وتبقى المخيمات رهينة المعاناة، وخلالها جرى التعامل مع الفلسطينيين كفئة مهمشة، تنادي ولا يسمع صوتها، تطالب ولا تلبى حقوقها، لم يكن تأثيرها قويا في الساحة السياسية اللبنانية، بل إنه في أيار 1987، ألغى مجلس النواب اللبناني رسمياً اتفاق القاهرة الموقع في العام 1969، دون اتفاق ثنائي يعطي الفلسطيني حقوقا مدنية وانسانية واجتماعية أو وعودًا جدية للتعامل معه كقضية سياسية بامتياز، فبقيت الرؤية الأمنية هي “الحاكمة” و”سيدة الموقف”.
وفي عهد الرئيس السابق ميشال سليمان، وبناءً على قرار مجلس الوزراء اللبناني، تمّ رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي الفلسطيني إلى سفارة، فافتتح الرئيس الفلسطيني محمود عباس “أبو مازن” في 17 آب 2011 سفارة دولة فلسطين لدى الجمهورية اللبنانية، وفي الأول من كانون الثاني 2012، تسلم أشرف دبور مهامه سفيرا، قبل أن يمنحه الرئيس عباس لقب سفير “فوق العادة” نظرا لدوره المحوري في الوحدة والتلاقي، وحماية المخيمات مع باقي الفصائل والقوى الفلسطينية، ويؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات الثنائية مع لبنان الشقيق.
الخطوات اللبنانية
وعلى طريق رفع الغين وتوفير مقومات الحياة الكريمة الى حين العودة، وعلى قاعدة ارساء الحقوق والواجبات، أنجزت الدولة اللبنانية ثلاث خطوات في الاتجاه الفلسطيني دون ان تصل الى خواتيمها النهائية، بإنتظار اقرار التشريعات الضرورية التي تمنح اللاجىء حقوقه المدنية والاجتماعية والانسانية وأبرزها حق التملك والعمل وذلك بسبب الخلافات الداخلية من جهة، والانقسام الفلسطيني رغم اعتبار الساحة الفلسطينية استثنائية وتتطلب الوحدة من جهة أخرى، فبقيت تراوح مكانها بانتظار الظروف الملائمة، وهي:
أولها: تأسيس “لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني” برئاسة السفير خليل مكاوي (13 تشرين الاول 2005) بموجب القرار رقم 89/2005 الصادر عن مجلس الوزراء برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة وحدد اولى مهمتها، معالجة المسائل الحياتية والإجتماعية والإقتصادية والقانونية والأمنية داخل المخيمات وللفلسطينيين المقيمين في لبنان بالتعاون مع وكالة “الاونروا”، وقد رأت فيها القوى الفلسطينية خطوة على طريق الألف ميل، بعدما أصبح حرمان الفلسطينيين من حقوقهم هو القاعدة وغير ذلك استثناء.
ثانيها: انجاز “التعداد العام للسكان والمساكن في المخيمات والتجمعات الفلسطينية في لبنان، الذي أجرت “لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني” بالشراكة مع إدارة الإحصاء المركزي اللبناني والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في (21 كانون الاول 2017)، والذي حسم بأن العدد الفعلي للاجئين الفلسطينيين في لبنان يبلغ 174422 ألف شخص فقط، وليس نصف مليون، بينها 114106 فقط في المخيمات، موزعين على 55473 عائلة، وبلغ متوسط حجم الأسرة 4 أفراد، وتصنف تلك الأسر 3707 الزوج فلسطيني لاجئ والزوجة لبنانية، 1219 الزوج لبناني والزوجة فلسطينية لاجئة.
وثالثها: اطلاق “لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني” “رؤية لبنانية موحدة لقضايا اللجوء الفلسطيني في لبنان”، (20 تموز2017)، ترجمة لوثيقة سياسية أعدتها “مجموعة العمل اللبنانية حول قضايا اللاجئين الفلسطينيين في لبنان”، والتي تضم ممثلين عن مختلف الكتل النيابية في مجلس النواب اللبناني بالتنسيق والتعاون مع “اللجنة” حول القضايا التي تتعلق باللاجئين الفلسطينيين في لبنان. وعقدت “مجموعة العمل” أكثر من 50 اجتماعا منتظما شهدت حوارا معمقا وصريحا حول الجوانب المعقدة من هذا الملف من أجل التوصل إلى صياغة نص شامل بهدف تزويد الدولة اللبنانية ومؤسساتها بتوجيهات وطنية ثابتة ومستمرة حيال اللاجئين وقضيتهم. وانطلقت من الحرص على معالجة المشكلات التي يعانيها الفلسطينيون في لبنان كدولة مضيفة على الصعد المعيشية والاجتماعية والخدماتية، ولجهة علاقاتهم مع مؤسسات الدولة، وذلك بعد مضي قرابة الـ 70 عاما على وجودهم في لبنان.
وخطوات فلسطينية
بالمقابل، برهن الفلسطينيون كسلطة وطنية وقوى سياسية ولجان شعبية حرصهم على الامن والاستقرار والسلم الأهلي اللبناني، ونجحوا في البقاء على الحياد الايجابي بعد قطوعات كثيرة كان أبرزها جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط 2005، إندلاع الاحداث السورية في 11 اذار 2011، وقد جرت محاولات لاستقطاب الفلسطيني وزجه في أتون الخلاف اللبناني الداخلي أو الصراع في المنطقة الا انه تم تجاوزها بالحياد الايجابي وبحفظ أمن المخيمات والجوار اللبناني بفضل التعاون والتنسيق مع القوى اللبنانية والأجهزة الأمنية والعسكرية.
وخلال هذه الفترات، ومع استفحال الأزمة اللبنانية الداخلية وتداعياتها على واقع المخيمات، استشعرت القوى الفلسطينية بعظم المخاطر المحدقة بالوجود الفلسطيني، وجره الى الفتنة المذهبية، فإنصب الاهتمام على محوري التلاقي والحوار الفلسطيني والتنسيق مع السلطات اللبنانية، فجرى تشكيل “لجنة المتابعة الفلسطينية” من كافة القوى الوطنية والإسلامية سواء في “منظمة التحرير” أو “تحالف القوى” أو “القوى الإسلامية” و”أنصار الله”، قبل ولادة “القيادة السياسية الموحدة” في لبنان كإطار سياسي وأمني للمخيمات، ونجحت في تفكيك الكثير من الألغام، سيما مع التفجيرات الانتحارية الإرهابية التي طالت لبنان، ومحاولة زج المخيمات الفلسطينية بها، غير انها لعبت دورا بارزا في تظهير صورة الفلسطيني العازم على عدم التدخل في الشؤون اللبنانية، والمصمم على أن تبقى وجهته وسلاحه فلسطين فقط.
واستكملت الخطوة في 28 اذار 2014، باعلان فصائل “منظمة التحرير الفلسطينية” و”تحالف القوى الفلسطينية”، و”القوى الإسلامية”، و”أنصار الله”، عن “المبادرة الفلسطينية الموحدة” بعد سلسلة من الاجتماعات الفلسطينية ـ الفلسطينية ومع الجانب اللبناني السياسي والامني والحزبي، بهدف تحييد الوجود الفلسطيني في لبنان، وحماية العلاقات الفلسطينية – اللبنانية وتعزيزها وتحصين أمن واستقرار المخيمات الفلسطينية في لبنان باعتبارها جزءاً من أمن واستقرار لبنان وتحييدها عن أي صراع أو نزاع باعتبارها عنوان قضية اللاجئين، والعمل لمنع الفتنة المذهبية والحؤول دون وقوع اقتتال فلسطيني لبناني أو فلسطيني فلسطيني، حماية الهوية الوطنية الفلسطينية من خلال التمسك بحق العودة ورفض مشاريع التوطين والتهجير والوطن البديل، دعم وحدة لبنان وأمنه واستقراره وتعزيز العلاقات اللبنانية الفلسطينية، دعم مقاومة الشعب الفلسطيني ضد العدو الصهيوني من أجل التحرير والعودة وتعزيز صموده من خلال حقوقه المدنية والاجتماعية”.
اليوم، مع الخطوات اللبنانية والفلسطينية المتبادلة والتوافق على تنظيم العلاقة الثنائية على قاعدة الحقوق والواجبات، يأمل اللاجئون الفلسطينيون ان تكلل جهود اللجنة الوزارية المعنية بالشأن الفلسطيني بالنجاح، وتستطيع تحقيق أهدافها بتخفيف معاناة اللاجئين وفتح حوار جدي وحقيقي يأخذ بالهواجس المشتركة وصولا الى اقرار تشريعات واضحة في البرلمان يعيد الاعتبار الى ابناء المخيمات على اعتبارهم عامل أمن واستقرار في لبنان، بعيدا عن اي انفجار اجتماعي في ظل الازمات الخانقة، سيما وان التحديات المستقبلية كثيرة وخطيرة ومنها المساعي الدولية لانهاء “الاونروا” وتصفية القضية الفلسطينية وشطب حق العودة وصولا الى التوطين مقابل التمسك بها على اعتبارها الشاهد الحي على نكبة فلسطين وحق عودة اللاجئين وفق القرار الدولي 194.