مقال جسور

الفلسطينيون والسينما في لبنان… ورهان الثنائي بيدس-بولس

الفلسطينيون والسينما في لبنان… ورهان الثنائي بيدس-بولس
* مخرج وناقد سينمائي لبناني

للفلسطينيين أثرٌ في صناعة السينما وإنتاج الأفلام في لبنان، استمر نحو عقدين مرتبطًا بنزوحَيْن واسعين: المدني عقب نكبة 1948، والعسكري نتيجة خروج القيادة الفلسطينيّة ومقاتليها من الأردن عام 1970. أسفر النزوحان عن تغيّرات ديموغرافيّة وسياسيّة عميقة في المجتمع اللبناني وخريطته الديموغرافيّة ومعادلته السياسيّة وطبيعته الاقتصاديّة. 

كان مطلع التغيّرات وأسرعها ظهورًا، تضرّر سكان الجنوب اللبناني من قفل الحدود وتحوّل النشاط التجاري واستيراد المزروعات والبضائع وتصديرها إلى داخل لبنان، انتقلت العلاقة الاقتصاديّة من طور التبادل بين بلدين إلى التكيّف في دورة محليّة عرفت أنماطًا من التعايش والتكامل حينًا والتضارب في أحيان أخرى، ترتب عليها تبعات الفقر والازدهار والخراب في آن واحد، تقاسمها لبنانيون وفلسطينيون مقيمون على ود أو عداء في كنف دولة قلقة على تركيبتها الطائفية ومهدّدة دومًا بحروب المنطقة وصراعاتها وتقلّب مصائرها. إذ اقتلع الفلسطينيون من أرضهم وسُلبت بيوتهم وأرزاقهم، وجدوا أنفسهم مشتتين في مخيمات بلا هويّة ولا أمل سوى هوية اللاجئ وأمل الإغاثة، يجاورهم لبنانيون لا يقلون عنهم فقرًا وتهميشًا وترديًا في أحوال المعيشة. نتج من النكبة، ونزوحها الأول، مصاهرة بين حرمان أهالي المخيمات الفلسطينية وحرمان جيرانهم الجدد في قرى الجنوب وتزايد هجرتهم إلى ضواحي العاصمة وإقامتهم في أحزمة البؤس وجيرة المخيمات الفلسطينيّة الآخذة في الازدحام والاتساع عامًا تلو الآخر في تلك الضواحي.
لم تكن البأساء وجهًا وحيدًا للنكبة، ولا ضحاياها المعدمة من سبل الحياة الكريمة. شملت أعداد الوافدين موسرين كانوا وعائلاتهم أوفر حظًا من السواد الأعظم من مواطنيهم في استئناف حياتهم وزيادة ثرواتهم وحصولهم على الجنسية واستثمارهم مالاً وأعمالاً في دفع الاقتصاد اللبناني إلى آفاق شاسعة ما وراء الحدود. إليهم يعزى تحريك عجلة مرافق عدة، ومن هؤلاء تحديدًا المصرفي المقدسي يوسف خليل بيدس، مؤسس بنك إنترا، عام 1951، ونجم صعوده وانهياره التراجيدي، عام 1966. حكاية الأثر الفلسطيني في صنع السينما في لبنان هي من سيرة هذا الرجل، وترتبط بتأسيسه استديو بعلبك وكان ظلّه في تنفيذ مشاريعه شريكه، الفلسطيني الآخر، بديع بولس. ما من مشروع إلاّ ويبدأ من حلم. اختار بيدس منطقة سن الفيل موقعًا لاستديو بعلبك. منها أطلّ على روابي المونتيفردي وتراءت له كأنها تلال هوليوود فلذة من لوس أنجلس مقتطفة من الساحل الغربي للولايات المتحدة، خصبة للزرع في هذه الأرض من شرقي المتوسط. مفتونًا بازدهار لبنان في خمسينيّات القرن العشرين وستينيّاته، مأخوذًا بتهافت المنتجين الأميركيين والأوروبيين ومن ثم برؤية نظرائهم المصريين ينقلون أموالهم وخبراتهم إلى بيروت هربًا من تأميم قطاعهم في عهد جمال عبد الناصر، وجد الثنائي بيدس-بولس الفرصة مواتية لخلق عاصمة سينمائية حرّة في منطقة ينهشها الاستبداد والانقلابات العسكرية ومصادرة دور القطاع الخاص وحيويته في تنمية اقتصاداتها الوطنيّة. دُشِّن استديو بعلبك في حزيران/يونيو 1962 وكان في إدارة بنك إنترا. لم يتسبب إفلاس البنك في توقفه. استفاد من تحول البنك شركة مساهمة واستمر الازدهار حتى نشوب الحرب الأهلية عام 1975، وظلّ يستقبل مشاريع أنتجها لبنانيون طوال سنوات الحرب إلى أن أُخلي نهائيًا من موجوداته وأُعلن عن هدمه عام 2010. 
من ينظر إلى حجم العمل السينمائي الوافد من الخارج وتضخم الإنتاج المشترك في مرحلة الهجرة المصريّة وبلوغه حدّ جذب المشاريع من سوريا وتركيا وإيران وبعض المغرب العربي، يجد أن رهان بيدس-بولس كان في محله. وفي الوقت نفسه، لم يثمر الرهان تأسيسًا لصناعة وطنيّة مستدامة، ذاك أن انتعاش استديو بعلبك قام على توفير خدمات الإنتاج بدل الاستثمار في الإنتاج ودعم السينمائيين اللبنانيين في صناعة أفلامهم وحصولهم على فرص عمل.
مات يوسف بيدس معانيًا من السرطان والاكتئاب بعد عامين من انهيار إنترا. أسلم الروح في سويسرا ودُفن في إحدى مقابرها. أسدل رحيله الستار على فصل النزوح الأول وفتحه سريعًا على فصل النزوح الثاني. ولد النزوح الأول من اليأس الذي خلّفته نكبة 1948، وولد النزوح الثاني من مرارة أحداث أيلول الأسود والخروج من الأردن، عام 1970، غير أنه جاء مشفوعًا بالأمل المعقود على المقاومة الفلسطينيّة مدججة بالسلاح وأموال الدول العربيّة. تحوّل لبنان مجموعةً من البنى التحتيّة الاقتصاديّة لمنظمة التحرير الفلسطينيّة وسائر الفصائل المنضوية فيها والمعارضة لها. في ظلّ هذه البنى، نشأت مؤسسة السينما الفلسطينية ومارست دور قطاع حكومي يقع على عاتقه إنتاج الأفلام وعرضها وتوزيعها واستثمار الموارد البشرية والمادية في صناعتها، وكان لمنظمات فلسطينية عدة أقسام سينمائية مستقلة ضمن هيكلياتها الإعلاميّة، ولم يستفد الفلسطينيون وحدهم من دعم هذه المؤسسات بل شملت سينمائيين لبنانيين وعربًا ناصروا القضية الفلسطينية وناضلوا في صفوف منظماتها. لكن، بخلاف اندماج أقطاب النزوح الأول في الاقتصاد اللبناني والانفتاح على سينما متعددة ومتنوعة ورائجة في الأسواق، بدا الاندماج والانفتاح بعيدين من اهتمامات رموز النزوح الثاني، إذ كان المال سياسيًا والقيّمون على إنفاقه في الفن والثقافة لم يكترثوا لاستثماره في شكل مجد. أعطوا “القضية” الأولوية وآثروا البروباغندا على الفن، مما أنتج أفلامًا أقرب إلى التقارير الإخبارية منها إلى الفن، واقتصادًا سينمائيًا ريعيًا ضاع معظم أثره وتبخّر فور الخروج الفلسطيني الكبير من بيروت، صيف الاجتياح الإسرائيلي عام 1982.