مقال جسور
الفلسطيني التائه من مخيّم سوري إلى لبناني!

إ*صحافي فلسطيني سوري، مخيم سبينة، سوريا
نقضى عامي الخامس من تصنيفي في خانة “لاجئ نازح”، وها أنا ذا منكبٌ على السادس حاملاً ثقل كل تلك السنين معي.
ولدت لاجئاً لعائلةٍ لاجئةٍ من صفد في شمال فلسطين إلى مخيمٍ في جنوب دمشق، عشت فيه ريعان طفولتي وربيع لجوئي (إن كان للجوء ربيع)، وعندما اشتد عودي – ولسوء حظي – كان لزاماً عليّ أن أعيش تجربة لجوءٍ ثانية بسبب الحرب في سوريا، وهذه المرة كان لبنان هو وجهة اللجوء القسرية الثانية.
يومي الأول في لبنان كان قاسياً بما فيه الكفاية ليبشّر بسنين لجوءٍ عجاف. أستذكر كلام سائق سيارة الأجرة التي كانت تقلنا أنا وعائلتي إلى جنوب لبنان، وتحديداً إلى مخيم الرشيدية للاجئين الفلسطينيين، حيث أثنى على خيارنا، فالرشيدية حسب وصفه “مخيمٌ هادئ، جميلٌ وفيه بحر”.
كان كلام السائق في ذلك اليوم هو الشيء الوحيد الجيد، وبدأت أتخيّل شكل المخيم وعناقه مع البحر. بدأت أشتاق إليه من دون أن أعرفه. وصلنا إلى موقف الحافلات ويسمى “دوّار البص”، وهناك إنتظرنا لأكثر من نصف ساعةٍ باحثين عن سيارة أجرة لتأخذنا الى المخيم. فعلى الرغم من كثرتها من حولنا في الموقف، إلاّ أنها جميعها كانت ترفض عندما تعرف بأن وجهتنا هي المخيم ومُحيا السائقين يتحوّل إلى رفضٍ بصورةٍ غريبة. موقفٌ أثار استغرابي وتساؤلي، لأعرف في ما بعد، بأن قلةً قليلة من غير الفلسطينيين يدخلون المخيم ولا يقتصر الحال فقط على سائقي الأجرة، وبأن معاناة إيجاد تاكسي يقلك إلى المخيم ستكون متلازمة معك ما دمت تعيش فيه.
وجدنا ضالتنا أخيراً وكان سائقٌ من الرشيدية، بدأت تلوح معالم المخيم من بعيد، إلى أن وصلنا فكان في استقبالنا حاجزٌ للجيش اللبناني. في البداية، ظننت بأنه وليد حدثٍ أمنيٍ معيّن وستتم إزالته بعد زوال تأثيرات هذا الحدث، أي أنه “حاجز طيّار” باللغة العسكرية. لكن شكل الحاجز ومعالمه كانت تشي بأنه قديمٌ ومستمر. ومن هذه المعالم قائمةٌ منمّقة بالممنوعات التي يحظّر دخولها إلى المخيم إلا بتصريح، ومنها مواد البناء والأجانب، فكنت أنا وعائلتي من الممنوعات التي تحتاج إلى تصريح حسب تقدير الجيش!
إستصدرنا التصريح بعد عملية مربكة ودخلنا إلى المخيم. كانت رايات الفصائل مرفرفةً في استقبالنا، صور الشهداء، والجدران المزدحمة بالعبارات الوطنية، كلها تشي بأننا أخيراً في المخيم.
إنقضى الشهر الأول من لجوئنا الحديث، أهالي المخيم إستقبلونا برحابة صدر وساعدونا في تأمين مسكن. المنزل الذي سكنت فيه وعائلتي كان هشّاً – كحال العديد من منازل المخيم – وبدأت مياه الأمطار تتسلل إليه. سارعتُ ووالدي في صباح اليوم الثاني للشروع بعملية الترميم، وبعد معاينة مكان النش في السقف، قدّرنا حاجتنا بكيس من الإسمنت فذهبت لأجلب واحداً. جبت أرجاء المخيم كله بطوله وعرضه، ولكنني عدت خالي الوفاض. والدي إستقبلني بعصبية بسبب تأخري وسألني بغضبٍ عن الكيس، فأجبته بأنه يحتاج إلى تصريح لإدخاله؛ هكذا أخبرني سكان المخيم، الدهشة اعتمرت وجهه مثلما اعتنقت وجهي من قبله.
بعد فترةٍ كان لزاماً عليّ أن أجد عملاً لأعيل به أسرتي، فاشتغلت في ورشة لبناء المنازل مع عدد من شباب المخيم. أذكر أنه في يوم العمل الأول جلسنا على الفطور مع شباب الورشة وبدأنا نتبادل أطرف الحديث وتطرقنا إلى الفوارق بين مخيمات سوريا ولبنان وما الى ذلك، وأخبرتهم أنني أنوي إكمال تعليمي وأحلم بأن أصبح محامياً. ضحك أغلبهم على كلامي وبانت على وجوههم ملامح الاستهزاء. وقال لي أحدهم “الفلسطيني ممنوع أن يعمل محامياً في لبنان”. إستغربت كلامه وسألته مستفسراً: لماذا؟، فأجابني: ” عدد كبير من المهن ممنوع على الفلسطيني أن يزاولها في لبنان، وهذا الذي يجلس على يمينك هو واحد من الممنوعين”. إلتفتُّ إلى يميني بعينين مفتوحتين على آخرهما من فعل الدهشة، فأجابني “أنا مهندس ولا أستطيع العمل كمهندس. شعرت بصعقةً سرت في جسمي؛ فكيف لمهندسٍ أن يكون عاملاً في ورشة بناء من المفترض أنه يديرها! لأكتشف في ما بعد أن غالبية شباب الورشة هم من خريجي الجامعات، ولأكتشف أيضاً أن هناك الكثير في مخيمات لبنان من نماذج الورشة التي عملت فيها.
مضت فترة على عملي، وكان التلفزيون هو أولى الكماليات التي نقتنيها في المنزل لكي نتابع برنامج “محبوب العرب”، وخصوصاً محمد عساف. كنا نبحث عن الفرح بأي وسيلة كانت، وعساف وقتها كان بارقة أمل فأي إنجازٍ فلسطيني هو إنجاز لكل الفلسطينيين. وما إن أعلن مقدّم البرنامج أن عساف هو من حاز على المركز الأول؛ حتى انفجر المخيّم فرحاً ورصاصاً. للحظات شعرت كأنني في واحدةٍ من جبهات القتال المحتدمة لهول أصوات الرصاص التي انطلقت في ذلك اليوم، لأكتشف في ما بعد أن السلاح هنا ليس وسيلةً لحفظ الأمن فقط، بل هو وسيلةٌ للإبتهاج أيضاً والخلاف أحياناً.
بدأتُ بعد فترةٍ بالتطوّع في مؤسسات المجتمع المحلي وأصبحت مدرباً لأولاد في كرة القدم. وفي أحد التمارين سألتهم عن أحلامهم عندما يكبرون؛ فتنوّعت أحلام الفتية إلا أن غالبيتهم صبّواحلمهم في السفر والهجرة. موقف جديد أثار دهشتي، لكن في ما بعد اكتشفت أنه ليس حلم هؤلاء الأطفال فحسب، بل هو واقعٌ جسده الكثير الكثير من شباب المخيم الذين غادروا بيوتهم وزواريبهم.
مرت الأيام والسنوات متسارعة وقررت أن أكمل تعليمي. كان لي ما حلمت به، فدخلت إلى الجامعة بعد طول عناء في اختصاص الاعلام. الجامعة هي المكان الذي يلتقي فيه الشباب الفلسطيني واللبناني ويتعرّفون على بعضهم البعض أكثر من دون قيود اجتماعية، وهناك سمعتُ بمصطلح صورة نمطية لأول مرة وعشته أيضاً. هذا المصطلح الذي يمنع الشباب اللبناني من زيارة اصدقائهم في المخيمات، وهذا المصطلح المبني على تَرِكَة الحرب الأهلية، وعلى صورة سلبية عن واقع الفلسطيني، وللإعلام دور كبير في تكريسه، فهؤلاء الشباب من الطرفين، هم ضحية هذا المصطلح بالدرجة الأولى.
اليوم، ما زالت هذه الأحداث تتكرّر أمامي وأصبحت جزءاً منها، وأحداث كثيرة تمثل الواقع المُعاش للفلسطيني في لبنان الذي يحاول جاهداً تحسين حياته، ويضع آمالاً كبيرة على الحكومة الجديدة في أن تنصفه وتمنحه حقوقه.
المخيمات الفلسطينية في سوريا لا تختلف كثيراً عن المخيمات في لبنان. ولغاية الآن لن أنسى شعور الأمان عند دخولي إلى المخيم. فمعاناة اللجوء واحدة، لكن الظروف مختلفة في البلد المضيف. في سوريا لم يكن هناك شيء اسمه صورة نمطيّة والتمييز كان معدوماً بين السوريين والفلسطينيين، ولم يكن هناك ايضاً حملات من أجل استحصال الحقوق المدنية، فالقانون السوري كان يقرّ بمعاملة اللاجئ الفلسطيني مثل السوري. لكن الشيء الموحّد بين هنا وهناك وفي مناطق شتات الفلسطينيين أجمع، هو الأمل بالعودة.
المخيمات الفلسطينية في سوريا لا تختلف كثيراً عن المخيمات في لبنان. ولغاية الآن لن أنسى شعور الأمان عند دخولي إلى المخيم. فمعاناة اللجوء واحدة، لكن الظروف مختلفة في البلد المضيف. في سوريا لم يكن هناك شيء اسمه صورة نمطيّة والتمييز كان معدوماً بين السوريين والفلسطينيين، ولم يكن هناك ايضاً حملات من أجل استحصال الحقوق المدنية، فالقانون السوري كان يقرّ بمعاملة اللاجئ الفلسطيني مثل السوري. لكن الشيء الموحّد بين هنا وهناك وفي مناطق شتات الفلسطينيين أجمع، هو الأمل بالعودة.
*صحافي فلسطيني سوري، مخيم سبينة، سوريا