مقال جسور

الفلسطيني… بعرقه يأكل خبزه

الفلسطيني… بعرقه يأكل خبزه
* كاتب لبناني 
 
صعب هو الجواب عن سؤال مفاده هل بدأت معركة إلغاء الغرباء؟ 
 
المشكلة نافرة تستدرج ردود فعل قاسية. لبنان لا يتعافى إلاّ بإيجاد حلول عادلة، لو استطاع إلى ذلك سبيلاً. الأصعب هو إحساس الغريب أنه مرفوض، ومرفوضة عودته إلى بلاده المقفلة دونه. مأساة اللاجئ شعوره القاسي بأنه غير مرغوب فيه، وأنه غريب في مكان إقامته الاضطراري. والغربة ليست خياراً، إنها من فعل الحروب وفصول الإقتلاع. 
 
الهجرات مأساة و”الاقتلاع النهائي” كارثة، وانعدام الأفق ذروة التخلي والعبث واليأس. من ذاق طعم التهجير والإبعاد، يعرف كم أن الانسانية مصابة بالعجز، إذ غالباً ما يستحيل اللاجئ إلى لعنة. يتحول ما حوله إلى نبذ وعداء وكراهية. اللاجئ لا يعود ضيفاً مؤقتاً. يصير ثقيلاً على بلاد ليست بلاده. وتتوالى بعدها مشاعر الحقد المتبادل. 
 
اللجوء الفلسطيني كان امتحاناً، سقط فيه الكثيرون. يبدأ اللجوء غالباً باستقبال حذر، طيب أحياناً تمليه المشاعر الوطنية والانسانية، بعدها إن طال اللجوء يتحول اللاجئ إلى ضيف ثقيل وغير مرغوب فيه، ونادراً لا يعفى من الإتهامات، فيصار إلى إسقاط المشكلات السياسية والأمنية والاقتصادية عليه، فيتحوّل اللاجئ إلى متًّهم ولو كان بريئاً. هنا يتراجع الشعور بالتضامن إلى نكران لحق اللجوء.
 
الفلسطيني في لبنان مشكلة مزمنة.إنقسم عليها البلد مراراً. هناك من معه تضامناً، وهناك من ضده نكراناً. وهناك من ينتظر وهناك من يتعجّل، وفي كل الحالات، لا حل مرضياً، ولا خارطة طريق ممكنة. عندها ليس أمام اللبناني الرافض إلاّ التربص، وليس أمام الفلسطيني غير الانتظار والخوف. انتظار العودة ، وهذه مسالكها مقفلة بسبب الاحتلال، ولأن القوى الدولية، تخلت عن مبدأ العدالة، وفضلت عليه تكريس الإحتلال والإنحياز إلى دولته والتخلي عن الشرعية الدولية. إستبدلت حق العودة بصفقة العصر كنموذج لتأبيد الكارثة. 
 
لا تقاس حيرة اللاجئ المزمن، ولا أحد يعرف مستوى بؤسه. فهو مطرود من بيته وممنوع أن يكون شبه مواطن، بحقوق تكفل له الحياة الكريمة نسبياً، وتعوض عنه بؤسه ويأسه، وتفسح له المجال، ليكون انساناً سوياً. يأسه يأكل معه في الصحن وينام معه في الفراش. طريقه دائري. ينتهي حيث يبدأ. كل المواعيد فشلت، وعاد كابوس إنعدام العودة يدفعه إلى محاولة تحسين اقامته، وهذا أمر ليس غب طلبه، فشروط القبول صعبة أو منعدمة، ولبنان مصاب بخصوصية متأصلة فيه، وفي تركيبته السكانية والتحوّل الديموغرافي فيه، وشعور أقلية كانت قوية، بأن معركتها العددية تتطلّب عن جد رفض التوطين . حتى أن الدستور اللبناني نصَّ على ذلك. ومع ذلك تبقى لافتة رفض التوطين عالية النبرة. 
 
من حق الفلسطيني، وكذلك غيره من اللبنانيين كثراً، أن يتساءلوا: أليس هناك امكانية إقامة أقل بؤساً؟ لماذا يصار إلى اشعاره دائماً بأنه مرفوض وأنه سبب عدد من الأزمات: متى يتوقف الاتهام الذي ينصب عليه، أو عليهم ككل؟ متى يوضع حد بين من يرتكبه وبين الأكثرية التي تواظب على احترام الضيافة؟ يتساءلون أيضاً: هل تشعرون بطعم الإقامة في مخيمات معزولة ومحاصرة وبائسة وممنوعة من التحول إلى إقامة مريحة، صحية، إنسانية، كما يحصل في بلاد الله الواسعة، حيث يستقبل المهاجرون على مضض أكثرية مشحونة بعصبية مضادة للغريب، والتعويض عن ذلك بإقامة تحترم قواعد السلوك الانساني؟
 
مزمن هذا الشعور بالاضطهاد. مزمن هذا اليأس من تحسين الأحوال. مزمن هذا الاتهام بأن الفلسطيني خطر على اللبنانيين أو على فريق منهم. لا ينسى لبنانيون أن الفلسطيني حمل السلاح بهدف العودة. التي تحوّلت إلى حرب داخلية قاتلة، إلى اصطفاف طائفي، وكارثة وطنية ومجازر متنقلة. 
 
هذا زمان انتهى أو يُفترض ذلك. نُصبت طاولة حوار، وعقد المتقاتلون اتفاقاً وانتهت الحرب. ظلت صورة الفلسطيني وبندقيته متلازمتين. لا يُنظر إلى الفلسطيني إلاّ بصورة الماضي، ولا يُرى بصورة اللاجئ، وحقوقه ومساعدته سياسياً ودولياً من أجل بقاء حق عودته على قيد الحياة، تمهيداً لزمن يفتح فيه الطريق إلى هذه العودة… مهما طال الزمان. 
أزمة لبنان الاقتصادية والمالية انعكست على سلوك بعض قوى السلطة. بات التشدد في تطبيق “القوانين”. أضيفت إلى معاناة اللاجئ الوجودية، معاناة معيشيّة، ومعاناة الشح الذي أصيبت به “الاونروا”. إنسداد الأفق هذا رفع معاناة الفلسطيني. 
 
صراع مزمن بين يد عاملة رخيصة، ويد عاملة وطنية تُطبّق عليها قوانين العمل اللبنانية. هذا “التصحيح” ترافق مع موجة عدائية إزاء كل غريب فقير مدقع. الأغنياء والأثرياء لا يسري عليهم قانون العمل. هم مرحب بهم، لا بل يُمنحون الجنسية التامة بمراسيم خاصة. البؤس هو حظ البؤساء. يتراكم البؤس حتى تصير الحياة إنتقالاً دائماً من جحيم إلى جحيم.
 
لقد ضرب الشح المالية اللبنانية… كانت الطبقات اللبنانية تعيش على تدفقات المغتربين القادمة من بلاد الغربة. غير أن مبدأ الاستدانة، وانعدام الشفافية أغرق لبنان بالديون التي تفوّقت على المداخيل. اللبناني كان ينفق كالاغنياء، وماليته إلى نضوب. أزمة كبيرة وامتحان صعب ومخاطر قاسية وملامح كارثة في الأفق والراهن. في مثل هذه الأحوال تتفتح الأعين على المداخيل. ضرائب على المواطنين في ظل أزمة بطالة مستفحلة ومصانع تقفل وتجارة تبور… لكن هذا المنحدر ليس بسبب الفلسطيني أو حتى السوري في لبنان، معضلة لبنان سابقة على ذلك، ولكن تحميل المسؤولية للغرباء وحدهم فيه ظلم كبير. هذه عادة الأحزاب اليمينية في أوروبا. وهذا هو الظلم… 
 
ما العمل؟ 
 
الحلول الوسطى هي أفضل الحلول. التوتر يسيء إلى العلاقات اللبنانية – الفلسطينية، وتحميل الفلسطيني رداءة الحالة الاقتصادية إفتراء. وعدم الاعتراف بعمق الأزمة الإقتصادية والمالية هروب من الحقائق الدامغة. لبنان في أزمة، لا تحلها تدابير إنفعالية واتهامية. تحميل المسؤوليات على الضعفاء غير جائز أبداً… الأزمة أصابت مرافق كثيرة.  الضعفاء ليسوا أصل المشكلة أبداً. المشكلة هي في السياسات المتبعة وعدم حصول مساءلة جدية للانفاق الحكومي. 
 
إذن ماذا؟
 
لا حل في الأفق، ولا بد من انتظار الحل من خلال نمو مستدام واقتصاد معافى، وتوازن بين الانفاق والجباية واستعادة الانتعاش الاقتصادي. 
“القلة تولّد النقار” مثل شعبي صحيح. الشح أصاب اللبنانيين قبل الفلسطينيين. فلتتوقف موجة التطرف العدائي إزاء الغرباء بانتظار الحلول البعيدة، أو بانتظار المعافاة اللبنانية، التي تتطلب انقلاباً في التفكير والسلوك والسياسة. اللاجئون مسؤوليتنا جميعاً. يجب ألا تُلقى على الفلسطيني كل تبعات الأزمة اللبنانية الراهنة. 
مَنْ يتعقل؟ 
الحلول صعبة، أيسرها الحوار الصادق، وصولاً إلى حلول إنسانية لا أكثر ولا أقل.