مقال جسور
الكورونا في لبنان… ومرآة منوَّعات الإنهيار

* صحافي لبناني
ما زال العالم في زمن “كورونا”. مع أن بشائر اللقاحات بدأت تبرز، إلاّ أنّه من المبالغة القول إنّه، انتهى من الجائحة “الناعمة” مقارنة بالجائحات الأخرى تاريخيّاً. بقي لبنان في منأىً عن فيروس “كورونا” حتى شهر شباط الماضي. وصل الفيروس في لحظةٍ شديدة الصعوبة لبنانيّاً. كان بديهيّاً أن أي أزمة جديدة تضرب لبنان، لن تكون تفاعلاتها مستقلّةً عن الأزمات الأخرى المتفشيّة في الجسم اللبناني. لم تكن الجائحة ذات طابعٍ صحيٍّ فقط، بل أعادت تظهير “الوباء الطائفي المناطقي” عبر اعتراض شخصيات سياسيّة على اعتماد إجراءات طبيّة مطلوبة لمواجهة الفيروس في مناطق نفوذها.
لم يكن من مفرٍّ من إجراءات التعبئة العامة، بعد أيامٍ من بدء الحكومة الجديدة ممارسة مهامها. فالتداعيات المقلقة لإجراءات الإغلاق الطويلة زمنياً، كانت تؤرّق الإقتصادات القوية، فكيف بالإقتصاد اللبناني المتهالك والذي ترافقه متلازمة الإنهيار؟.
سرّع فيروس كورونا وتيرة الأزمة الاقتصاديّة اللبنانيّة. جائحة تشلّ قطاعاتٍ واسعة، في موازاة عجزٍ رسميٍّ عن تأمين حاجات نسبةٍ وازنة من الفئات الأكثر فقراً وتضرّراً، أو التعويض عن أصحاب المصالح المتضرّرة بفعل الإقفال.
واجه المجتمع اللبناني، قبل “إعادة فتح البلد”، ظواهر جديدة لم يعهدها في أشدّ الأزمات. يصعب الحديث، مثلًا، عن التباعد الإجتماعي وسهولة تطبيقه في السلوكيّات اليوميّة للبنانيين. لكنّ عوامل عديدة شجّعت على بروزه سلوكاً لبنانياً جديداً وإن كان مؤقتاً. الخوف من المرض، طلب المرجعيّات السياسيّة من مناصريها التزام الإجراءات الصحية، أديا إلى شلل معظم الأعمال في البلد. إستعمال السيارات “مفرد ومجوز”. سرّع كورونا وتيرة “الإنهيار اللبناني” وكذلك رفع فاتورته الاقتصادية على المجتمع. كشف هشاشة الإهتمام بالقطاع الصحي الرسمي، وارتفاع مستوى التجارة في القطاع الصحيّ الخاص. الخوف من انتشار الفيروس، عرقل على نحوٍ كبير التحرّكات الشعبيّة المطلبيّة. التداعيات الأولى والمباشرة للفيروس في لبنان، برزت كتحديّات كشفت نتائج الأداء الرسمي في العقود الماضية. الأشهر الأولى عكست أداءً يصفه أطباء كثيرون بأنّه يتراوح بين الجيّد والجيّد جداً في مواجهة المرض. فقد مرّت أيام عديدة ولا سيّما بعد إجراءات الإغلاق المتشدّدة، تراوح فيها عدد الإصابات بين صفر وعشر إصابات، وهو ما أعطى انطباعاً إيجابياً ملحوظاً عن أداء الحكومة ووزارة الصحة. لكن الأوضاع تغيّرت لاحقاً.
يقول شاعر فرنسي معروف: “تكون العاصفة ممتعةً حين يكون البيت قوياً”. لم تكن هذه حال لبنان في الموجات المتوالية من انتشار الفيروس في محافظاته. وبعد عودة المغتربين، مع ما رافقها من إعادة انتشار الفيروس على نحوٍ شديد الخطورة (تجاوزت الأرقام 100 إصابة يومياً)، برز الخطاب السلبي تجاه المغتربين و”لا مسؤولية بعضهم” التي أدت إلى تفشي الجائحة من جديد. قابله الخطاب الداعم لعودة المغتربين، في موازاة انتقاد الأجهزة الرسميّة لجهة عدم قدرتها على إدارة عمليّة من هذا النوع. شكّلت قضية عودة المغتربين مدخلاً إضافياً لتفعيل النقاش العام حول الأزمة الطبقيّة العميقة المتنامية في لبنان، بين فئاتٍ مقتدرة أمكنها الصمود وتحويل فترة الحجر إلى فرصة لإعادة أواصر العائلة الصغيرة، وفئات فقيرة تكاثرت بفعل تداخل الأزمات في ما بينها، تحوّل الحجر بالنسبة إليها لأوقاتٍ مريرة من البطالة والعجز عن تأمين الحاجات الأساسيّة، تمكّنت المبادرات الإجتماعية من تعديل سوداويتها. وإذا كانت مبادرات الدعم الأهلي في المدن والقرى والمخيّمات الفلسطينيّة قد أبرزت مفهوم التكافل الاجتماعي، غير أنّ ذلك يبقى مسألةً تشاؤميّة، خصوصاً وأن بروزها كان نتيجة طبيعيّة لعجز الدولة عن القيام بواجباتها تجاه المجتمع في هذه الحقبة الموجعة. لعلّ فيروس كورونا كان مرآة الإنهيار اللبناني على مختلف المستويات. تداعياته مستمرة باستمرار انتشاره عالمياً والعجز عن إيجاد لقاحه. يبدو مشهداً سورياليّاً أن يحذّر مستشفى رفيق الحريري الحكومي من قرب نفاد مخزونه من المحروقات. وسورياليّاً أكثر، كثرة الطرائف حول الكمّامات، أو الخوف من إعلان الإصابة، أو التعرّض لفحص الكشف عنها، خشية التنمّر الاجتماعي في كثير من البقع اللبنانية المصابة. كورونا بنسخته اللبنانية كان عنصر تفعيل الأزمات التي كانت آتية حتماً، وما يعقد لواء الأمل البسيط بتجاوزه هو أن مشكلة الفيروس عالمية، ومن المرجّح انتهاؤها في لبنان، عندما يجد العالم لقاح الفيروس، فيدخل لبنان مثقلاً بتداعيات الجائحة وغيرها من أزماته إلى “زمن ما بعد كورونا”.