مقال جسور
اللبناني بعيون فلسطينيّة: بين الواقع والمُتخيّل والمأمول!

كاتب وباحث فلسطيني
لعل الحِكمة من وراء اختيار “لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني” عنوان: “اللبناني بعيون فلسطينية – الفلسطيني بعيون لبنانية” للبحث والتناول، هو من أجل رسم صورة دقيقة ولو نِسبياً حول كيف ينظر الطرفان اللبناني والفلسطيني إلى بعضهما بعضاً، ومن أجل ذلك كَلَّفت اللجنة بمهمة الكتابة حوله شخصيات مُخضرمة عُرفت بحرصها على أفضل العلاقات دائماً بين الشعبين.
لا شك في أن العنوان على اتساع يقتضي منا تحديد المقصود بــ”اللبناني”، محل تعيين الفلسطيني؛ هل هو اللبناني عموماً، أم نصير القضية الفلسطينية حصراً، وبخاصة مُساندة ما يُطالب به اللاجئون الفلسطينيون في لبنان من حقوق إنسانية؟
من ناحية أُخرى، من هو “الفلسطيني” المطالب بتحديد نظرته تجاه اللبناني؟ هل الحديث هنا عن أفراد أو نُخب فلسطينية، أم نظرة الجماعة الفلسطينية في لبنان، والشعب الفلسطيني ككل تجاه الشعب اللبناني؟
تنبع أهمية التدقيق هنا كيلا نقيس على الفردي؛ الاستثناء، إيجاباً، كما قسنا على الفردي الاستثناء سلباً. بكلمة أُخرى، يُمكن أن نجد لدى أفراد أو هيئات فلسطينية أو لبنانية نظرة وردية أو قاتمة، مكتوبة أو شفاهة، تجاه الآخر، اللبناني أو الفلسطيني، لكن ذلك لا يسمح بقول إن النظرة، وردية كانت أم قاتمة، تعكس رأي المجموع.
ليس في الأمر أُحجية أو استحالة تقدير نظرة الطرفين الفلسطيني واللبناني تجاه بعضهما البعض، انطلاقاً من حقيقة أن هناك تجربة طويلة معروفة حَفَرت عميقاً في النفسين اللبنانية والفلسطينية. أن الندوب المتبادلة لم تنته بخروج 1982، كما وأن شيئاً جدياً لم يُعمل لمراجعة التجربة وتنقية النفوس والعلاقة. هذا لا يؤتى بمُصالحة على عجل بل بعمل يؤسّس إلى علاقة واعية على قاعدة أن جودة العلاقة بين الطرفين مصلحة استراتيجية لهما.
ثمة جُهد، مُنسق و معاد يسعى إلى جعل لبنان، بدل إسرائيل، عدواً لفلسطينييه، ويرتكز على تصنيع ثقافة كراهية لِلُّبناني بين الفلسطينيين ككل. إنّ أحداً لم يعُد يتحدث كثيراً عن الخطيئة الأصلية؛ إقامة إسرائيل، نكبة 1948، في إنتاج مأساة اللاجئين الفلسطينيين عموماً، وفلسطينيي لبنان حصراً. ما يجري هو تصوير لبنان مُبتدأ بؤس هؤلاء وخبره! ليت لجنة الحوار تتابع هذه القضية وتمظهراتها الخفيّة في الإعلام والجهات الناشطة على هذا الصعيد.
حول معنى مفاجأة نتائج تعداد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان!
أنتقل إلى كفاءة إدارة ملف فلسطينيي لبنان، وما يبذل من جُهد لتنقية وتطوير العلاقات اللبنانية – الفلسطينية، ومن ضمن ذلك إتمام تعداد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، الذي حَسَم جدلاً مديداً ومريراً حول عددهم، ما هدَّأ نسبياً مخاوف البعض وأعطى الوجود الفلسطيني في لبنان حجماً أقل من المتداول.
انطلاقاً من أن عدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بلغ (174 ألفاً)، نُسجل أن العِبرة ليست في العدد، بل في نوعية إدارة ملفهم، لأنه مع إدارة أقل حِكمة وكفاءة للملف تكون المشاكل أكبر حتى مع عدد أقل من اللاجئين، والعكس صحيح.
أما الملاحظة الثانية فحول معنى أن عدد اللاجئين الفلسطينيين الفعلي في لبنان هو ثُلث الرقم الافتراضي الأكثر تداولاً لعددهم، ما يؤكد أن قضية الوجود الفلسطيني في لبنان تُدار أيضاً تحت ضغط أخبار ووقائع زائفة.
وعليه؛ إذا كان عدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان محل تضخيم بنسبة تبلغ الضعف أو الضعفين أو ثلاثة، ربما، فإننا نستطيع افتراض أن ثمة مُبالغة مُشابهة في ما تبقى من قضايا ذات صلة بموضوعهم. أقول ما سبق استناداً إلى قراءة مُتأنية ومُراجعة كثير من الأوراق حول المشاكل التي يعاني منها فلسطينيّو لبنان عموماً، والمخيمات خصوصاً!
كان يكفيني لمعرفة الحقيقة إخضاع ما تُدبّجه الدراسات إلى قراءة منهجية صارمة ومُقارنتها مع الوقائع على الأرض في المخيمات، حيث دقَّقت هذا الأمر مع نشطاء مقيمين دائمين داخل المخيمات، وتطابقوا معي حول اختلاف ما يُقال مع الواقع. نعم، ثمة مبالغات فادحة، صارت قاعدة في الدراسات المتناسلة خطيئة عن خطأ، وبعضها يحمل توقيع أسماء كبيرة.
من المبالغة في عدد سكان المخيمات الى تضخيم مشكلة الاكتظاظ السكاني فيها!
أقرب الأمثلة في هذا المجال وأكثرها وثوقاً تلك التي تتحدث عن أزمة إسكانيّة في مخيمات الفلسطينيين في لبنان، وهي تتكرر في مُختلَف الدراسات، ثم أتى التعداد السكاني ليبيّن أن نسبة متزايدة من المقيمين في المخيمات الفلسطينية لم تعُد من الفلسطينيين. كيف يستقيم ذلك والحديث عن اكتظاظ سكاني فلسطيني إذا كان فيها مُتَّسع إسكاني كبير لغير الفلسطينيين!
لا يعني ما سبق عدم معاناة المخيمات الفلسطينية في لبنان، من مشاكل جدية، وحاجتها إلى حلول، لكن يختلف الامر إذا كانت المشكلة في حجمها الطبيعي، ومقدوراً عليها، أو مُضخَّمة كثيراً ما يجعل حلّها مستحيلاً!
يُحدّد ما تقدم المفتاح المنهجي لفهم مُدخلات وكيفية تشكُّل صورة “اللبناني بعيون فلسطينية”؛ كما صورة “الفلسطيني بعيون لبنانية”. وعليه، هل نَجَت الصورتان من آفة المبالغة الفادحة سلباً؟! مع الأسف هيمن على الصور المُتبادلة اللون السلبي عموماً، نتيجة عوامل مُتعددة ومُتناقضة من المهم التمييز بينها، وفرز ما يعود منها لأسباب معروفة ومفهومة، وبين ما هو مُفتعَل، من ضمن عملية تصنيع واعية لجدار من الكراهية بين الفلسطينيين واللبنانيين.
كي نتذكر أن أهم نُخبة فلسطينية تشكّلت في لبنان، وأنه كان لسان فلسطين ورئتها وعقلها!
أختم بقول ان ثمة من يُعيد واعياً ذاكرة الحرب ومآسيها، بل يسعى إلى مَدْ ذلك على كامل تاريخ الوجود الفلسطيني في لبنان، وزَعْم: لم يكن لبنان يوماً إلا سجناً كبيراً لفلسطينييه؟ قلَّما سمعنا علناً من كثيرين أنه كان داخل هذا “السجن الكبير” جامعة وبنكاً ومدرسة ومنبراً وشارعاً لفلسطين؛ لقد أعطاها لسانه وماله وعقله ودمه! في لبنان تشكَّلت أهم نُخبة فلسطينية. لبنان كان رئة فلسطين وعقلها ولسانها! لعل من الواجب الآن إعادة تلاوة هذا المزمور!