مقال جسور

المأمول هو المصالحة مع قضية فلسطين

المأمول هو المصالحة مع قضية فلسطين
 *كاتب لبناني
 
حكاية اللجوء الفلسطيني الى لبنان، جلجلة. لم يختر الفلسطيني اللجوء، اجبرته “اسرائيل” عليه مراراً. تحت وطأة الاحتلال والمجازر، ترك الفلسطيني أعز ما يملك: بيته، أرضه، وطنه، حكاياته و… ترك كل شيء على أمل ان يعود قريباً، وقريباً جداً. حمل الفلسطيني مفتاح بيته، ولا يزال، ولم ينتزع منه حلم العودة.
 
التهجير الاول حدث منذ سبعين  عاماً، وكأنه حصل بالامس. رواياته راسخة في تقليد اللجوء: اقتلاع وتشتّت وعذابات ونكسات. سبعون  عاماً، والفلسطيني يحلم ويعمل ويناضل من اجل العودة. يكاد الجيل الاول ان يختفي. الجيل الرابع  راهناً، يعيد انتاج حلمه بفتات الرجاء والامل.
 
واللاجىء، يستقبل كلاجىء وليس كسائح أو كرجل أعمال. كانت المعاناة تهدّ الكيان الانساني: الخيام بديلاً عن البيوت، الغربة بعيداً عن الوطن، الازقة عوض البيارات والدور والحقول، السماء الضيقة عوض المدى الازرق المفتوح على الافق، “الاونروا” وطنهم “الكرتوني” الذي منه يرزقون، مساعدات الحدّ الادنى من الحدّ الادنى.
 
عوّل الفلسطيني اللاجىء على اشقائه العرب. كم كان عذاب الانتظار مديداً وقاتلاً. لم ييأس الفلسطيني. ظل متمسكاً بمفتاح بيته، وعطر التراب ورائحة البيارات وصباحات الايام ولياليها الملاح. انتظر طويلاً، فحلّت “نكسة حزيران”، ومعها تدفق لاجئون جدد في موجات متتالية.  احتلت فلسطين بكاملها، وخرّت جيوش الانظمة امام جبروت الالة العسكرية “الاسرائيلية”… وبات على الفلسطيني أن يحمل صليبه ويعيش جلجلته. حمل سلاحه. به قد يعود الى وطنه أو الى ربّه.
 
الضيف ثقيل، فكيف اذا كانت الضيافة مديدة، وبلا زمن: سنوات وعقود وأكثر. كان طبيعياً أن يشعر اللبناني بهذا الثقل وهذه المسؤولية. كما كان طبيعياً أن يشعر الفلسطيني بعبئه على نفسه وعلى غيره. ومن عادات اللجوء أن يتذمر أبناء البلد من ضيوفه المديدين، ومن طبيعة اللاجىء أن يطالب بأكثر من الحد الادنى… نزاعات صامتة ومضنية نشأت: سُمح للفلسطيني بالاعمال المتدنية والعائدات المجحفة. المخيمات ملاجىء مكتظة، مع ما يعنيه ذلك من بؤس ونقص في الخدمات الصحية والحياتية والتربوية. المخيمات، خزّان العمالة الرخيصة، في اعمال ومهن يأنف اللبناني القيام بها، الا اذا كان من الاطراف، حيث يتساوى بؤس اللبناني مع بؤس المخيمات الفلسطينية.
حمل الفلسطيني سلاحه قبيل وبعد النكسة. لم يعد يعوّل على الانظمة العربية. لا تحتمل الدول سلاحاً غير سلاحها الشرعي المتمثل بجيوشها. اصطدمت المقاومة الفلسطينية مع الجيش الاردني. خسرت هناك، فتسللت الى لبنان، وتحوّلت بسرعة مخيمات البؤس الى خزّان من المقاتلين. كل مخيم بات جبهة… صار الفلسطيني عبئاً سياسياً وعسكرياً، لم تستوعب الصيغة اللبنانية التوافقية هذا الوافد الجديد. فقدت الصيغة توازنها، فأنقسم لبنان بين رافض للبندقية الفلسطينية وبين مؤيد وداعم ومنخرط فيها. انتصف لبنان وتوزع طائفياً. جبهات مفتوحة، قتال داخلي، مأساة متنقلة، فيها تحوّل الفلسطيني الى قويٍ ومستقوٍ. وعدم الرضى لدى شريحة لبنانية، تحوّل الى عداء مسلّح.
سنوات من الصراع والجنون، خرج منها لبنان مثخناً. لم يعد كما كان. اتهم الفلسطينيون بأنهم استبدلوا فلسطين بلبنان. صارت صورة الفلسطيني صورة العدو المغتصب. تحوّل لبنان الى ساحة قتال، يشارك فيها كل الاعداء: أنظمة عربية تدعم وتلجم، دول غربية كذلك، واسرائيل ايضاً وايضاً، ميليشيات ومنظمات تستولد بين حيّ وحي. تنبت كالفطر السام في كل زاوية، قتل، خطف، تنكيل، تهجير، سرقة وموبقات اخرى كثيرة، على ايقاع معارك تفتك بالبشر والحجر. كل ذلك بعيداً عن فلسطين.
 
تمّ تدمير وسط بيروت. حصلت مجازر رهيبة في القرى والمدن والجبال والمخيمات. كل مجزرة استدعت مجزرة مضادة. تدخلت اسرائيل، اجتاحت ثلاثة ارباع الكيان. لم يتوقف القتال مؤقتاً، الا بعد اخراج قوات منظمة التحرير من بيروت وتوزيعها من اليمن الى تونس و… 
 
في العام 1982، انتهت الحروب اللبنانية والفلسطينية باستثناء معارك في طرابلس والبقاع، فيما استمرت بشدة وعنف، الحروب اللبنانية – اللبنانية الطائفية. خسر الجميع ولم يربح احد. كانت اللعنة من حصة الفلسطيني. لقد حُمّل أصل المشكلة، إذ لولاه لظلّت الصراعات الطائفية اللبنانية محكومة بسقف المواقف والتصريحات، لا أكثر.
 
بعدها، بدأ فصل لبناني جديد، محتكماً الى مرجعية “الطائف”. كان التجاهل حصة  الفلسطينيين. “فليعودوا الى مخيماتهم”. ما عادوا مشكلة سياسية، ولكنهم ظلّوا مشكلة لجوء. هكذا استعاد الفلسطيني بعد الطائف لقبه الاول: لاجىء، وتمّ تناسي لقب الفدائي.
 
تراجع وزن الفلسطيني السياسي حتى كاد ينعدم. لبنان لم يكن قد تعافى من عقدة الفلسطيني، شعر الفلسطيني بالاهمال والتهميش، وكاد يفقد الامل في تحقيق حلمه بالعودة. بات الفلسطيني مهدداً بالتوطين. حق العودة يتضاءل. حقه بحياة كريمة وحرّة خارج وطنه صعب المنال. لا يحق له ما يحق لكائن طبيعي في وطنه. فصار الفلسطيني اكثر بؤساً وربما يأساً. سلاحه الخفيف، طريقه الى فلسطين مقطوعة وممنوعة. تحوّل هذا السلاح الى “حروب الأخوة الاعداء” داخل بعض المخيمات. عدد منها يعيش طاعون العنف المستدام. الفلسطيني يقتل اخاه الفلسطيني. ولم  تنته، حتى اليوم، فصول الصدام. انها مرشحة للانتشار في اكثر من مخيم. يضاف الى ذلك انه اصبح ضيفاً ثقيلاً على كثير من اللبنانيين. سوق العمل مقفلة في وجهه، حركاته محسوبة، هكذا اخرج من الخريطة اللبنانية واعيد الى المعازل.
 
لم يشفِ اللبناني بعد من مخلّفات الحرب. جرت محاولة اعتذار. قوبلت ببرودة. سبعون عاماً من سوء وجود وسوء تفاهم وسوء مآل ومصير، لا تنتهي بمصالحة من فوق. لم يتصالح اللبناني والفلسطيني بعد. همّهما في محاربة التوطين، يلزم ان يكون مشتركاً. الفلسطيني ليس راضياً. واقعه مأساة ومستقبله مجهول وأمله مفقود. واللبناني ما زال يقبض على تخوّفه من أن تحل ازمة اللجوء بمحنة التوطين. يستحيل ذلك، لما يجرّه من خلل في الميزان الطائفي… واذا كانت قد خفّت الشكوى من الفلسطيني اليوم، فلأن النزوح السوري احتل ساحة الاهتمام، ولأن اللبناني بات أسير مشكلاته اليومية المستعصية، ماء وكهرباء وديوناً و.. سبعين عاماً من اللجوء. كم سنة بعد؟ كم سنة سيتحمّل الفلسطيني اللجوء؟ كم سنة سينتظر اللبناني؟
 
متى يتصالح اللبناني والفلسطيني؟ المصالحة من فوق ناقصة. المأمول هو المصالحة مع القضية: قضية فلسطين، والاخوّة اللبنانية – الفلسطينية.
هل هذا حلم؟
بل هذا مطلب ملحّ لإقامة السلم الدائم القائم على التفهم العميق المتبادل. العلاجات الامنية ناقصة. الاجحاف يولّد نزاعات. العلاجات يلزم أن تكون في العمق.
ليت ذلك يحدث. لقد تأخرنا كثيراً.