مقال جسور

“المخيم” الخانق… و”المخنوق”

“المخيم” الخانق… و”المخنوق”

منى سكرية*

ارتبط المخيم للاجئين الفلسطينيين في مخيلتي بفلسطين عينها. قضية أنتمي إليها بعيوني القومية والعروبية والأخلاقية بمفهومها الإنساني الواسع. مفهوم فطري/ خام لا يخضع لاعتبارات وتفاسير ورطانة مفردات أصحاب المصالح الذين يُقلّبُون الحقائق تبعاً لمصالحهم، لا إلى قيَم العدالة بالمفهوم الإنساني المحض في نظرتهم لهذا “المخيم” وأسباب نشوئه.

تعدّى “المخيم” كحالة مكانية واقعه الجغرافي المحلي/ الطارئ إلى حالة إسمية استمدها من الجغرافيا / الأم فلسطين، فصار الدال والمدلول هما فلسطين و”المخيم”..

وتجاوزت حالات هذا المخيم التعبيرية مُمَثّلة بلحظة إنسانوية بصيغة الواجب، إلى مَدَيات متعددة الذات التعبيرية سياسياً، اجتماعياً، اقتصادياً، ثقافياً، ومما هو فوق سياسي محلي/ قضية، إلى ما فوق قضية/عالمية.. وهكذا انبنت صورة “المخيم” في الواقع، وفي المخيال.

كان اقترابي من “المخيم” سابق لدخولي مجاهل أزقته، وتشابك بُنَاه شبه العمرانية، وتعذُّر اكتشاف خطوط متاهات جغرافيته، وقبل تعرّفي إلى نسيج علاقات ساكنيه، من اللاجئين الفلسطينيين بحكم مهنتي في الصحافة المكتوبة. كان هذا الاقتراب بفعل الانتماء، والإيمان بعدالة شعب مظلوم، والمقتلع بقوة المجازر الصهيونية من أرضه.

خضع “المخيم” منذ ما بعد عام النكبة 1948 مع توافد جموع اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان، لعدد من التغيرات بالتعريف السوسيو- سياسي، لا بل كان “المخيم” عنواناً لتبعات تلك التطورات.. فمنذ بدايات اللجوء، نُصبت الخيم في عدد من الأراضي الخاصة، والمُستأجرة لاحقاً من “الأونروا” بعد تأسيسها، ويمكننا ملاحظة أن جميع هذه المخيمات أقيمت قرب وعلى أبواب مدن الساحل اللبناني باستثناء مخيم “ويفل”( القشلة الفرنسية زمن الانتداب) أو الجليل في بعلبك. والمعنى من إقامة هذه المخيمات ساحلاً إنما لأهداف خدمة الاقتصاد اللبناني كيد عاملة رخيصة الأجر، كما يذكر المؤرخ عادل اسماعيل في مذكراته بهذا الخصوص، واقتناع الرئيس الراحل بشارة الخوري صاحب تلك النظرية.

“المخيم” الذي آوى الآلاف من اللاجئين بقوة الطرد والتطهير العرقي الصهيوني، ما لبث أن بدأ بالتموضع/ الدور إنعكاساً لتطورات أحداث الخارج.. وبين اليد العاملة الخبيرة بزراعة الحمضيات (في جنوب لبنان تحديداً)، إلى ممارسة أبناء المخيم للتعليم، وقد كانوا على قدرِ عالِ منه، فكانت إحدى الجامعات الأجنبية الخاصة مرتعاً لإبداعات هؤلاء تعلّماً وتعليماً، وتفوقاً، ولنا في لوائح الأسماء ما يؤكد.. ومثلها في الاقتصاد، وتثمير رؤوس الأموال الآتية مع اللاجئين، وما قضية بنك انترا لمؤسسه الفلسطيني يوسف بيدس سوى واحد من الأمثلة، ناهيك عن الإبداع الفني والثقافي.. فكان المخيم مخيمات: “مخيم” خانق يخشاه البعض، و”مخيم” مخنوق ولكنه آمن عند من يخشونه، تبعاً لازدواجية العقلية الماركنتيلية اللبنانية!

مع تغيرات الوضع السياسي على مسار العمل الفلسطيني أواسط الستينيات من القرن الماضي وانطلاقة الكفاح الفلسطيني المسلح، بدأت التضادّات بالبروز: تضاد الأحلام بالنضال للعودة، يقابلها المخاوف من ظاهرة السلطتين والقوتين والشارعين. وهو ما حصل للأسف. ونتج عنه تضييق على أبناء المخيمات، واعتقالات، ولاحقاً جولات اقتتال انتهت بخروج السلاح والسياسة الفلسطينيين إثر اجتياح إسرائيل للبنان العام 1982..

بقي “المخيم” شاهداً على مرحلة رمادية من سني نكباته العديدة والمديدة (نرجو ألا تطول).. تراجعت قوة القوة، وخضع أبناؤه لممنوعات العمل في 73 مهنة، ووضعته دوائر الرقابة الدولية تحت مجهر العدّ والعدد، وتسابقت سفارات الدول في منح تأشيرات الهجرة لمن يرغب، أو ترغب..وازدادت الأوضاع الاقتصادية / الاجتماعية سوءاً وتدهوراً، واشتد الخناق على الحناجر لأسباب ذاتية وموضوعية، فغاب عن المشهد مشاهد التظاهر والهتافات بالمعنى الشعبي.

ضاق “المخيم” بأهله، وبقلق أبنائه، واضطراب تنبؤات الآتي له وعليه.. لكن ظاهرة تستوقف كل متابع، ألا وهي إصرار نساء ورجال “المخيم” على إعطاء الهوية معناها، بابتكارهم – واستمرارهم – في الحفاظ على التراث الوطني الفلسطيني، وتنوع غناه ومجالاته.. فكانت الإبرة بيد المرأة في “المخيم” عنوان خيط النسيج الممتد من كنعان ما قبل التاريخ والميلاد إلى فلسطين الأرض والشعب والحضارة.

* كاتبة وصحافية لبنانية