مقال جسور
المخيّمات بين عدوى الوباء و”عدوى” الأمل

* روائي وقيادي فلسطيني
وسط صراع بين عدوى الوباء و”عدوى” الأمل، كيف عملت الأنويّة المجتمعيّة الفلسطينيّة في لبنان في مواجهة الوباء؟ لناحية كشف معادلة النقص السلوكي أو اليقظة الأخلاقية، على وقع الديناميّات المؤثرة فيه؟ وكيف صاغ المجتمع آلياته الدفاعية الخاصة في مواجهة الوباء؟ مع إدراك مسبق لهشاشة الواقع المعاش، وظروف الحياة وضعف النظام الصحي ، ومنه أداء وفاعلية وكالة الغوث “الأونروا”، التي وجدت نفسها أمام تحدٍ جديد بفعل ما تعانيه من أوضاع ماليّة وضعف في التمويل، بعد إيقاف الدعم الأميركي لها.
ومع تفشى الفيروس العابر للحدود والقارات والبلدان والطبقات والأعراق والأجناس والجنسيّات والطوائف وحتى الإنتماء السياسي، صارت المناعة حاجة مشتركة للتذكير بأننا نعيش في عالم مترابط .
التفشّي يحدث وسط بيئة سلبية تتزايد فيها سياسات التمييز والعنصرية، حيث يتحوّل الخوف وعدم اليقين من الفيروس، إلى ذهنيّة كبش الفداء، التي أدانها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس ونعتها بـ”تسونامي الكراهية” نسبة إلى تزايد منسوب العنصرية، ودعا بابا الفاتيكان حكومات العالم إلى “عدوى الأمل” و”التجرّد من الأنانيّة”.
كشفت الحاجة البشرية إلى “عدوى الأمل” كلقاح مضاد لعدوى الوباء، أن المناعة الإنسانيّة تبدأ من جهاز المناعة السلوكي، وخصوصاً بعد تفشٍ عالمي مذهل لحالات الإقصاء الإجتماعي وسياسات التحيّز المنهجي وتجاهل حقوق النساء وحاجاتهن، والعمال وكبار السنّ والسود والأقليّات العرقية واللاجئين والفئات الضعيفة. ومعه ظهر نمط إحصائي مزعج يشير إلى أنهم الأكثر تضرراً، وقلق من أن ينشر العمال المهاجرون عن غير قصد الوباء بمجرد السماح لهم بالمغادرة، بسبب ظروف العيش البائسة أثناء الإغلاق.
لقد استفزّت طاقة المجتمع الفلسطيني في لبنان إختلال جهاز المناعة السلوكي، عبر إحياء الصورة النمطيّة السلبيّة للمجتمع الفلسطيني في لبنان. وما الكاريكاتور الذي نشرته احدى الصحف في ذكرى الحرب الأهليّة اللبنانيّة، إلاّ نموذج لهذا السلوك، الذي شبّه الفلسطيني بفيروس كورونا، كإسقاط للأزمات على الغير، وتبرئة الذات وتعليق ذنوب الماضي على شمّاعة المجتمع الفلسطيني، لنبش اللحظات المؤلمة والتجارب القاسية في تاريخ العلاقات اللبنانيّة/الفلسطينيّة.
وضمن هذا السياق، دعا رئيس تيّار سياسي لبناني “لاتخاذ تدابير كاملة في محيط مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين والسوريين ومنع الدخول إليها والخروج منها”، ما يستعيد شبح سبعة عقود من التمييز والإقصاء، والعزل والتهميش والمعاقبة. فكيف عادت الصورة النمطيّة المختزلة وفق أحكام مسبقة؟ وكيف ألصقت بالمخيم الصورة السلبية المنفّرة، بأنه مصدر عدوى الوباء، بهدف خلق جبهة كراهية له و شعورٍ بدونيّته؟
بين عدوى الوباء وعدوى الأمل، دعت لجنة الحوار اللبناني/الفلسطيني “إلى تكثيف كل الجهود للوصول إلى بيئة سليمة وخالية من مخاطر هذا الوباء القاتل”، كما زيارة وزير الصحة اللبناني مخيم الجليل برفقة سفير دولة فلسطين في لبنان، وعدد من المسؤولين وقوله للاجئين الفلسطينيين: “نحن وإيّاكم نسيج واحد، المخيم وبعلبك واحد”.
إستندت الطاقة الداخلية شعبياً إلى اليقظة الأخلاقية وفق مقولة “ما حكّ جلدك متل ظفرك”، عبر مقاومة الإنكار والأنانيّة السياسيّة، واللافاعليّة للمؤسسات المحليّة والوطنيّة والدوليّة. وكان التحدي الأبرز في المخيّمات الفلسطينيّة مبادرتها لإجراءات الوقاية من إقفال المداخل الفرعيّة، إلى قيام فرق شبابيّة متطوّعة وطواقم الدفاع المدني بتجهيز نفسها بنفسها وفتح مشاغل لخياطة الكمّامات وتوزيعها مجاناً على الناس، وشراء بدلات واقية، وقياس حرارة الداخلين، وتثبيت غرف تعقيم على بوابات المخيّمات على مدار ساعات اليوم، وتعقيم محيطها بما فيه القرى المجاورة. وتمّ تمويل المبادرات هذه من تبرعات أبناء المخيّمات في الخارج ومن رجال أعمال فلسطينيين.
إنتشرت المبادرات في عموم المخيّمات الفلسطينية وخلقت جواً من التنافس الإيجابي، كان بمثابة آلية دفاع عن الذات وبتلقائيّة وفطريّة. وتفسير ذلك، أنه كلما جرى مسّ حقيقي بالأمان الإنساني والوطني أو الشعور بالإهانة، يكون الردّ ذاتياً يستنفر جهاز المناعة الوطنيّة بصورته الإجتماعيّة، والأخلاقيّة، من خلال التكافل والتعاضد المجتمعي كالذي شهدته المخيمات، دعماً وتبرعاً وتطوّعاً من أبناء المخيّمات من داخله، وجمعيات فلسطينية من أبناء المخيمات في الخارج، وإطلاق حملات إعلاميّة ومبادرات إجتماعيّة مثل حملة “تكافلوا” و”إيد بإيد” و”معاً نتقاسم رغيف الخبز” و”من إبن المخيم لإبن المخيم”. فيما تستنفر الهيئات المحليّة والشعبيّة لمراقبة وضبط الارتفاع الجنوني للأسعار، وإعفاء أو تخفيض بدل الإيجارات أو الإشتراكات وبعض الرسوم، أو تأجيل دفعها. كما تحرّكت صلة القربى بين أبناء المخيّمات الفلسطينية المقيمين في أوروبا، وقامت جمعياتهم هناك بتسديد ديون المحال والصيدليات لبعض المرضى والمحتاجين في المخيم.
أطلق الوباء في المخيّمات عدوى الأمل، كامتحان للوطنية، كما هو امتحان لجهاز المناعة السلوكي للجميع ومقياس لمبادئنا وقيمنا وإنسانيتنا، فلا يمكن لأيّ مجتمع أو بلد اليوم أن يبني جداراً يتحصّن فيه من الفيروس. إن أخذ زمام المبادرة ضدّ هذا التحدي، يستوجب أن نربط ترتيبات الرصد والوقاية والاستجابة الوطنية بمعالجة السياسات التفضيليّة المتأصلة. إن إقصاء المجموعات الأقليّة يقوّض فعّالية الإستجابات للتحديات الوبائيّة، ويضع الأساس لمجتمعات أكثر تفتتاً. لقد دعا المتحدث باسم المنظمة الدولية للهجرة جون ميلمان، الحكومات إلى معاملة اللاجئين والمهاجرين بكرامة واحترام، لأنّ صحة المجتمعات مرتبطة بصحة أفراد المجتمع الأكثر تهميشاً.
تقوية جهاز المناعة السلوكي كفيلٌ بسحق عدوى الوباء، من خلال ضرورة تصحيح سوء الفهم من الوجود الفلسطيني في المخيم وخارجه وفهم مكوّنات هذا الوجود، والتأكيد على أنّ توليد الطاقة الإيجابية يؤدي الى تحسين الصورة، وانعكاسها الواقعي على العيش الأخوي المشترك، فيما قبول الآخر هو الحلّ للمخاوف الحالية والهواجس التاريخيّة.
تقوى المناعة الذاتيّة بتنمية الكتلة الإيجابيّة الشبابيّة الفلسطينيّة، وتركها تعبّر عن نفسها بالمعنى الإيجابي في المخيّمات، لتكون النقيض للأوبئة المستشرية نتيجة الإهمال والإقصاء والتهميش، وبما يستعيد الصورة الصحيحة الكفيلة بتأسيس سياسة وعلاقات وتفكير وفعل إيجابي.
آن الأوان لانتصار الصورة الإيجابيّة على النمطيّة المعمّمة، بفعل سمات التصالح والمسامحة والتعاطف والتمثّل بروح العمل التطوعي والخيري والتفوّق الأخلاقي والتضحية والنجاح والأصالة،. وعليه، فإستعادة رمزية المخيّم كمنشّط للثقافة الجمعيّة والوطنيّة والنضاليّة، تجعله الشاهد، وليس الضحيّة المتكررة، الفلسطيني فيه صاحب حق وطني يتمسّك بالكرامة والعدالة وحق العودة.