مقال جسور
إعمار مخيم نهر البارد و دروس التجربة: المسكن اللائق في سبيل الوطن اللائق
مروان عبد العال*
كما أن التكوين الطارئ المرتجل للمخيم، تحت صدمة البُعد عن الوطن، انطوى في الوقت نفسه، على شكل آخر من العناية الفائقة بالتعليم وبتحسين شروط الحياة المؤقتة، وإمكانية جعلها مخزناً للذاكرة الدافئة والانتماء الأصيل والهوية الوطنية. ولنهر البارد خاصة، الميزة الاجتماعية والوطنية والاقتصادية والثقافية، الذي زاد عمره عن ثلاثة اجيال من التغريبة الفلسطينية المليئة بالمعاناة، ولكن بكبرياء. بالألم ولكن بكرامة. بالصبر ولكن بالتّحدي. بالإرادة الجماعية وبالثقة بالمستقبل.
اثبتت نكبة البارد الثانية، أن اجهاض الأزمات التي تحدث أمر ممكن، في حال كانت الوقاية خيراً من العلاج، وأن العجز عن اجهاضها يطرح خيارين؛ اولهما، إدارتها بفاعلية. وثانيهما، الاستسلام لها وتلقي آثارها التي قد تكون تدميرية. لذلك تتطلب الأزمات إدارة حاذقة، وقرارات صعبة وقدراً اعلى من التوازن، وعدم التوتر والتفاهم الوحدة والتعاون والثقة…ألخ.
فعلى صعيد إدارة الأزمة تعني الاستراتيجيات والخطط والاساليب التي نتبعها لإدارة عملية معقدة و لمواجهة الحالات غير الاعتيادية. فقد جاءت حرب مخيم نهر البارد (2007) كأزمة طارئة لتعكّر السياق الإيجابي للعلاقات اللبنانية الفلسطينية، الذي بدأ يتبلور في العام 2005 مع تحسن العلاقات بين الطرفين، والذي تجسّد في إعادة فتح مكتب (م.ت.ف) الفلسطينية ورفع التمثيل الفلسطيني إلى مستوى سفارة ، كما تجلّى في إنشاء لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني.
كان المدخل احتواء الأزمة، بالقرار اللبناني الرسمي الواضح والصريح بضرورة إعادة الإعمار كما كان، والإنتهاء منه بحلول العام 2011، وبحتمية عودة سكان المخيم إلى بيوتهم. ولكن للأسف فإن عملية إعادة الإعمار طالت جرّاء جملة من التعقيدات الفنية واللوجستية والعقبات القانونية والسياسية. وبشكل خاص سوء تقدير حجم الكلفة الإجمالية، وما رافقه من صعوبة حصول الأونروا على أموال إضافية من الممولين لإستكمال عملية الإعمار المتعثرة.
وكان للتّأخُر انعكاس على الوضع الاجتماعي والنفسي والاقتصادي وتأزيم الفلسطيني وجودياً، وعلى انقطاع تواصل المخيم مع محيطه الاجتماعي والاقتصادي من خلال خسارة الدور الذي لعبه كمركز تجاري للمحيط اللبناني.
وكان يُراد من قبل كل الأطراف المعنية، وخصوصاً اللبنانية والفلسطينية أن يشكل مخيم نهر البارد بعد إتمام إعماره نموذجاً لباقي المخيمات الفلسطينية، أي “المخيم النموذجي” الذي يُحتذى به فيما يتعلق بتوفير السكن اللائق والأمن الإجتماعي والإنساني والعلاقة الجيدة مع الجوار. ولكن للأسف، فقدنا هذه الفرصة للأسباب والتعقيدات السابقة. وهذا يستلزم ضرورة تقييم التجربة برمتها لإستخلاص الدروس والعبر وللإضاءة على الإيجابيات في تلك التجربة والتعلم منها. ومن هذه الإيجابيات:
1- نهر البارد كان المخيم الوحيد الذي يُعاد بناؤه من بين المخيمات الفلسطينية التي دُمّرت خلال الحرب الأهلية ..
2- التعاطي المحسوب من قبل القيادة الفلسطينية إزاء الأزمة، عندما انحازت الى جانب الدولة اللبنانية ضد الإرهاب، لأن المخيم ضحيته. وأسهمت في الانتصار عليه، رغم كلفة الدمار والتهجير الباهظة التي تكبدوها.
3- كان للوضع الاقتصادي المميَّز للمخيم، الذي شكل سوقاً اقتصادياً للجوار اللبناني، مردوداً إيجابياً على العلاقات بين المخيم وجواره تجسدت في علاقات المصاهرة والاندماج الإجتماعي بين سكان المخيم وسكان الجوار. وهذا ما خلق حالة من التكافل والتضامن، وباتت إعادة الوئام الاجتماعي والحياة المدنية والثقافية والاقتصادية معياراً للمصداقية السياسية الموجبة لتطوير العلاقات الأخوية بين الشعبين، وحفظ سيادة لبنان وصيانة سلمه الأهلي، فضلاً عن الالتزام المبدئي بقضية اللاجئين والتمسّك بحقهم في العودة.
4- كان للمقاربة الإيجابية التي اتبعتها الأونروا في إشراك المجتمع المحلي في تصميم عملية الإعمار من خلال المذكرات المشتركة التي وقعتها مع كل من “الهيئه الأهلية للإعمار والبحوث والدراسات” واللجنة الشعبية في مخيم نهر البارد التي نتج عنها تشكيل ” لجنة المتابعة لإعادة إعمار مخيم نهر البارد” دوراً كبيراً كونها تضم الكُل الفلسطيني، وكشريك في متابعة التصميم والتنفيذ، وفي الحفاظ على الطابع المعماري “المؤقت” للمخيم وعدم تحويله إلى حالة دائمة، والحفاظ على أواصر العلاقات الأسرية وروابط الجيرة والتماسك والنسيج الإجتماعي، بما ساعد في الحفاظ على هوية المخيم الفلسطيني بما يمثل.
وفي سياق تعلم الدروس والعِبر واستثمار الجوانب الإيجابية من تجربة إعادة إعمار مخيم نهر البارد وتوظيفها في تعزيز العلاقات اللبنانية الفلسطينية، مع تنحية الجوانب السلبية، نورد هنا مجموعة من التوصيات:
• بناء رؤية مشتركة للعلاقات الفلسطينية اللبنانية من أجل حماية المصلحة المشتركة، والانتقال من الحيّز النظري إلى العملي، استناداً إلى الحصيلة التاريخية للتجربة، مع ضرورة اخضاع تلك التجربة لمزيد من البحث والتقييم والدرس والاستشراف.
• استمرارية لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني القيام بدور فاعل في صياغة نموذج جديد لإدارة المخيمات انطلاقاً من مخيم نهر البارد (كمخيم نموذجي) ما يشكّل نقطة ارتكاز مستقبلية في العلاقات اللبنانية الفلسطينية، وفق النهج التشاركي المذكور بمشاركة الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية والأونروا.
• الإعتراف القانوني باللجان الشعبية في المخيمات ومنحها مكانة تنظيمية في المهام الخدماتية والميدانية والمحلية، وتطوير التمثيل الشعبي القطاعي والنقابي والمؤسساتي داخلها؛ ودعمها معنوياً ومادياً وفق خريطة تطويرية.
• منح صلاحيات أوسع للأونروا في مجال الخدمات والتشغيل والإسكان إلخ، بصفتها المؤسسة الخاصة بحماية اللاجئين أينما وُجدوا داخل المخيم أو خارجه في القديم أو الجديد على حد سواء.
• تحسين العلاقة مع الجوار اللبناني وإنهاء حالة الطوارئ العسكرية وصولا إلى استعادة حالة الانتعاش الاقتصادي التي عاشها المخيم قبل الحرب وبالتدريج.
• استكمال التعويضات المستحقة واستكمال الترميم والإعمار للبيوت والمحال التجارية في المخيم الجديد، وتطوير برامج قروض صغيرة فعَّالة ترعاها الأونروا وربما غيرها من المؤسسات الدولية.
• تعميق الوعي بمفهوم سيادة القانون كإطار مرجعي بديلاً للإستنسابية والآحادية، وعواقب التطبيقات السلبية للقانون، أي تطبيق القانون بوجهيه المتمثلين في العدالة الإنسانية والسيادة اللبنانية من منظور الحقوق والواجبات.
لأننا في الشوط الأخير من ماراثون الإعمار الطويل. لينصب الجهد الرئيسي على اتمام البناء حتى اخر حجر، وطي هذا الملف، باعتباره بمثابة رسالة بالغة الدلالة و تعبير عن ارادة انسانية وأخوية صادقة، في اهمية تأمين “المسكن اللائق”! من اجل التمسك بالحق المشروع في تحقيق حلم العودة إلى “الوطن اللائق”، والحقيقي والابدي. وطن الاجداد الذي لا بديل عنه وله.
*روائي وسياسي فلسطيني ومسؤول اللجنة الفلسطينية لمتابعة اعمار مخيم نهر البارد.