مقال جسور
المواجهة بين إسرائيل والفلسطينيين: التطورات والتداعيات

* كاتب فلسطيني
شهدت الأراضي الفلسطينية المحتلة، من النهر إلى البحر، هبة شعبية عارمة، لم يشهد لها مثيل منذ الانتفاضتين الأولى والثانية، تميزت، بالتطورات المهمة الآتية:
شهدت الأراضي الفلسطينية المحتلة، من النهر إلى البحر، هبة شعبية عارمة، لم يشهد لها مثيل منذ الانتفاضتين الأولى والثانية، تميزت، بالتطورات المهمة الآتية:
أولا، مقاومة شباب القدس الشرقية العنيدة والشجاعة والواعية لسياسة إسرائيل، وجنودها وأفراد شرطتها، واشتغالهم على مخاطبة الرأي العام العالمي، الأمر الذي جلب تعاطفاً كبيراً مع قضيتهم، بإظهارهم كضحية، بكشفهم إسرائيل على حقيقتها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية تستخدم القوة المفرطة في مواجهة احتجاجات سلمية، وتسخر أجهزتها الأمنية لدعم هجمات المستوطنين المتطرفين والمتدينين؛ وبديهي أن الفلسطينيين في كل أنحاء العالم أسهموا في تلك الحملة على وسائط التواصل الاجتماعي، بحيث أحدثت اختراقات لافتة في الدول الغربية ذاتها، وضمنها الولايات المتحدة الأمريكية.
ثانيا، انخراط فلسطينيي 48 بشكل فاعل وكبير في فعاليات الهبة الشعبية في القدس الشرقية، إلى درجة احتضانهم لها، وقد توج ذلك في الزحف الشعبي الكبير على القدس، من مدن وقرى فلسطينيي 48 يوم 8 مايو (ليلة القدر في شهر رمضان)، والذي كان دور كبير له في إرباك المؤسستين السياسية والعسكرية في إسرائيل، سيما أن ذلك تضافر مع شمول الهبة كل الفلسطينيين، من النهر إلى البحر. وكان هذا التطور (حصل قبل المواجهات الصاروخية) بمثابة السبب الأساس في تراجع إسرائيل عن الاستمرار في موقفها في باب العمود، إذ فكّت الحواجز الحديدية، أو بشأن الإجلاء في حي الشيخ جراح، إذ تم تأجيل جلسة المحكمة للبت في هذا الشأن (يوم 9 مايو).
ثالثا، دخول حركة “حماس” على خط المواجهة العسكرية مع إسرائيل، بواسطة الصواريخ، وكان ذلك تطوراً بالغ الأهمية، سيما أن حركة حماس هي التي بادرت إلى ذلك هذه المرة، على خلاف الحروب الثلاث السابقة التي شنتها إسرائيل على غزة (2008، 2012، 2014)، ثم إن تلك المواجهة بينت القوة الصاروخية المختزنة لدى تلك الحركة، والتي غطت بقصفها الإسرائيليين في عديد من مدنهم، وضمنها تل أبيب، بشكل غير مسبوق ومفاجئ، بخاصة لإسرائيل ذاتها، ولحلفائها الغربيين. وإضافة إلى هذا وذاك فإن ذلك التحول نحو العسكرة والحرب الصاروخية، أدى إلى استشراس إسرائيل في محاولاتها تدمير غزة، بعماراتها وبُناها التحتية، وأيضا في محاولاتها فرض هيبتها في مختلف الأراضي الفلسطينية، وهو ما تجلى في انتهاجها سياسة القمع ضد الفلسطينيين في القدس، كما في حيفا ويافا واللد وعكا، الخ… الأمر الذي يفترض دراسة آثاره على تطور أو ترسخ انخراط فلسطينيي 48 في الإطار العام للعمل الوطني الفلسطيني أو كبحه.
في المحصلة فإن تلك التطورات خلقت تداعيات متعددة، ومتضاربة، ضمنها:
أولاً، تراجع مكانة القيادة الفلسطينية، إن بحكم الأداء الهزيل في مساندة الهبة الشعبية، أو بحكم تصدر حماس، بأخذها المبادرة في توجيه الضربات ضد إسرائيل، سيما أن الهبة أتت في ظرف بات فيه محمود عباس، رئيس المنظمة والسلطة و”فتح”، في اقصى حالات ضعفه، وأفول شرعيته الشعبية، بعد تأجيله، أو إلغائه، الانتخابات، وإطاحته بكل توافقات إنهاء الانقسام، ومع التصدع الحاصل في حركته فتح. بيد أن تلك الحرب، رغم ما تقدم، أسهمت في تعويم مكانة الرئيس، ولو من دون قصد من “حماس”، إذ بات بمثابة المحاور أو المفاوض المقبول في الوسط الدولي عن الفلسطينيين، وفيما يخص التهدئة، ومشاريع إعادة الإعمار، بحكم تصنيف حركة حماس كحركة إرهابية، لا يمكن التعامل معها.
ثانيا، رغم تضعضع شرعية الرئيس شعبياً، وفي حركته فتح، إلا أن الواقع الفلسطيني شديد التعقيد، والتداخل مع إرادات الأطراف الخارجيين، إذ البديل الموجود عمليا هو حركة حماس، وهي غير مقبولة، وربما غير مناسبة فلسطينياً، بحكم طبيعتها، مع علمنا بأفول الفصائل الأخرى، اليسارية، التي لم يعد لها مكانة وازنة في أوساط الفلسطينيين في الداخل والخارج. كما لم يعد لها دور في مواجهة إسرائيل، ناهيك عن افتقادها لهويتها السياسية أو الفكرية وعيشها على تاريخها. في هكذا ظروف، تتأتى صعوبة توليد بديل من افتقاد الفلسطينيين لإقليم مشترك، مع تشتتهم، وخضوعهم لأنظمة متعددة ومتباينة، ولاعتمادهم على الريع المتأتي من الدول الداعمة (وارتهانهم لها) أكثر من اعتماديتهم على شعبهم، وبواقع ترهل حركتهم السياسية، التي تفتقد للديمقراطية وللحراكات الداخلية وللتداول والمراجعة النقدية، وللإطارات الجمعية، وأخيراً بسبب كتلة من الموظفين المتفرغين، في السلطة والمنظمة والفصائل تناهز على ربع مليون. هكذا فكل واحد من تلك العوامل يقيد أي مسعى لإحداث تغيير سياسي، وهذا هو سر قوة القيادة الفلسطينية الضعيفة إزاء الخارج والقوية إزاء شعبها. والفكرة أن التغيير السياسي حاجة موضوعية متوفرة، لكن الشرط الكافي يتطلب توافر العامل الذاتي، ومعه الشروط العربية والدولية التي تسمح بذلك.
ثالثاً، على الصعيد الإسرائيلي، أحست القوى السياسية الحاكمة في إسرائيل، والمجتمع الإسرائيلي، هذه المرة، أن السيطرة على الفلسطينيين، أو إخضاعهم، ليس بتلك السهولة، إذ في لحظة واحدة غابت الحدود بينهم، وظهروا كشعب واحد، في الضفة وغزة والقدس ومناطق 48 وبلدان اللجوء والشتات، وكأن شيئا لم يحصل خلال 73 سنة، بل إنهم عادوا إلى السردية الواحدة، التي تأسست على إقامة إسرائيل وتشريد الشعب الفلسطيني وولادة مشكلة اللاجئين، مطيحين بالأوهام التي شاعت مع حل الدولتين (1974)، ومع اتفاق أوسلو (1993)، اللذان تأسسا على إزاحة الرواية التاريخية القائمة على ملف النكبة (1948) إلى رواية تتأسس على احتلال إسرائيل للضفة وغزة (1967). والمسألة الثانية إن الفلسطينيين يقاتلون بكل شيء، بعنادهم وبإيمانهم بقضيتهم، مع استعداد عال للتضحية، مهما كانت الأثمان. إذ تبين أن قطاع غزة المحاصر استطاع أن يراكم قوة عسكرية تستطيع أن تربك أو توجع إسرائيل، وأن تصمد في وجه وحشيتها، علماً أن دولاً عربية لم تستطع ذلك كما حصل في حرب حزيران (يونيو 1967). على ذلك، من المبكر التكهن بكيفية تعاطي إسرائيل مع هذا التطور الأمني بالذات، بالطريقة السهلة والناعمة أم بالطريقة الصعبة والخشنة، بالطريقة السياسية أو بالطريقة العسكرية.
المسألة الآن ما إذا كان بإمكان الفلسطينيين استثمار تضحياتهم وبطولاتهم، في تطوير حركتهم الوطنية، وتصليب عودها، وفقاً لمبدأ وحدانية الشعب والأرض والقضية والرواية التاريخية، وما إذا كان الوضع العربي والدولي سيسمح لهم الفوز ولو بالنقاط، هذه المرة، على إسرائيل؛ من عدم ذلك في كلا المسألتين.