مقال جسور

الموت لم يعد ينهي رحلة اللجوء الفلسطيني… والمقابر “أم المشاكل” في المخيمات

الموت لم يعد ينهي رحلة اللجوء الفلسطيني… والمقابر “أم المشاكل” في المخيمات

محمد دهشة

صحافي فلسطيني

في فلسفة الموت والحياة، تكون المقابر عادةً مكانًا للراحة اأابدية، ولكنها في المفهوم الفلسطيني تتحول الى محطة من محطات “اإانتظار المؤقتة”، كما الحياة نفسها داخل المخيمات القائمة على التهميش والحرمان من أبسط الحقوق الانسانية، فيما الموت في ظل التشريد والترحال عن الوطن يضحي لجوءا من نوع آخر. عند الفلسطيني المسكون بعشق فلسطين يكتسب كل شيء بعداً وطنيًا من الولادة الى النهاية.

يتقاسم اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، الأحياء منهم والأموات، مساحات المخيمات الضيقة جغرافياً. فمنذ تأسيسها بعد نكبة فلسطين العام 1948 بقيت المخيمات الفلسطينية في لبنان على حالها دون زيادة وتراجع عددها من 16 الى 12 لأسباب كثيرة منها الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975 والإجتياح الإسرائيلي في العام 1982 والأحداث الأمنية المتنقلة، بالمقابل زاد أعداد أبنائها بالتكاثر حيناً وبرحلة لجوء فلسطيني من مخيمٍ الى آخر أحيانا.

ضيق المساحات في المخيمات، لم يؤثر فقط على اللاجئين الأحياء الذين تقاسموها قسراً وطوعاً، بين المنازل المتلاصقة والشوارع الضيقة والحارات الشعبية والأسواق والمحال التجارية، وكثيراً ما يردد أبناؤها المقولة الشهيرة “يكاد الجار يسمع ما يقوله جاره”، لا خصوصية ولا حدائق ولا مساحات خضراء أمام زحف الإسفلت في كل مكان، فيما اللافت غياب المصاعد رغم تطاول البنيان عامودياً.

بل إن ضيق المساحات يؤدي الى مأساة انسانية مع اللاجئين الأموات أيضاً، استكمالاً لمآسي تلازمهم وهم أحياء وتتمثل في امتلاء المقابر، التي تعتبر “أم المشاكل” في غالبية المخيمات من شمالها الى جنوبها وفي القلب منها العاصمة بيروت، مع طول أمد اللجوء لأكثر من سبعة عقود ونيف، حتى أضحى تعدد أسماء المتوفين على شاهد القبر الواحد أمرا مألوفاً بعد اعتماد طريقة دفن الموتى فوق بعضهم البعض.

يعيش اللاجئون الفلسطينيون في لبنان في 12 مخيماً بعد تدمير أربعة منها، إضافةً الى عدد من التجمعات غير الرسمية، ويعانون من مشكلة عدم وجود مقابر أو امتلائها وخاصة في المخيمات ذات المساحة الضيقة مثل مخيم البص او ذات الكثافة السكانية مثل مخيمات عين الحلوة، البداوي وبرج البراجنة، فيُدفن الميت فوق الآخر. وقد بدأت الازمة تظهر منذ العام 1985 مع حصار المخيمات في بيروت والجنوب وامتلاء المقابر بالموتى من دون إيجاد حلول دائمة أو طويلة الأجل.

المقابر “أم المشاكل”

في عين الحلوة، الذي تبلغ مساحته نحو كيلو متر واحد، ويقطنه نحو 85 الف نسمة، تتكرر مشكلة المقبرة بين أعوام وأخرى، اليوم يؤرق هاجس عدم إيجاد قبر سكان المخيم في السر والعلن. بات الموت هماً مضافاً وثقيلاً على معاناة مُزمنة لا تتوقف، لقد امتلأت المقبرة الثالثة منذ أشهر عديدة وبدأ الدفن فوق الموتى، ومن لم يجد قبرا يجري “تدبيره” في المقبرة القديمة بصعوبةٍ بالغة وبكلفةٍ مرتفعة.

يقول المشرف على المقبرة الحاج محمود حجير “لقد بدأنا الدفن فيها في العام 2012، وعلى مدى عشر سنوات امتلأت في العام 2022، كان يفترض أن تتسع لنحو 1200 قبر وفق الخريطة المُعدًة لها، ولكننا تداركنا الامر وضيقنا المسافات لكسب المزيد من المساحة والوقت تفادياً للمشكلة حتى استوعبت 1900 قبر، ونحن نعاني الآن من مشكلة مكررة مع امتلائها ونسعى الى ايجاد مقبرة اخرى “.

ويؤكد عامل المقبرة محمد عثمان “ابو خالد”، “لقد بدأنأ بفتح القبور القديمة بعد مضي سبع سنوات عليها لندفن فوقها، الأصل ان تبقى عشر سنوات وأكثر حتى تتحلل بالكامل. في مخيمات أخرى فُتحت القبور اضطراراً بعد ثلاثة أعوام فقط، في دلالة الى مدى المشكلة التي يعاني منها أبناء المخيمات.”

في العام 2012، عانى أبناء عين الحلوة من مشكلة دفن الموتى بعدما امتلأت المقبرتان القديمتان فيه، حاول أبناؤه تسليط الضوء عليها ومنحها البعد الإنساني الصرف، رفعوا الصوت، نظموا الإحتجاجات والإعتصامات. وفي تعبير رمزي أحضروا “تابوتاً” ووضعوه وسط الشارع، في اشارة الى أن الحلول انعدمت ولم يعد امامهم سوى دفن موتاهم في الشوارع وبين المنازل، تكراراً لمشكلة مماثلة في مخيم شاتيلا عام 1985 حين حاول اللاجئون البحث عن حلول للدفن في البيوت أو المساجد، لعدم القدرة على الوصول إلى المقبرة آنذاك، بسبب  الحصار على خلفية حرب المخيمات.

في مبادرة فردية، أطلقها رجل الأعمال عدنان أبو سيدو الذي هاله أن لا يجد قبراً لوالدته الحاجة لطيفة التي توفاها الله في عام الأزمة، شق الحل طريقه واستكملت المبادرة سياسياً وتنظيمياً في شراء قطعة أرض في درب السيم المحاذي للمخيم وتحويلها الى المقبرة الثالثة التي امتلأت اليوم. بدأت المساعي للبحث عن بديل لها حيث قررت منظمة التحرير الفلسطينية قبل أشهر قليلة شراء أرض ملاصقة، جرى الإتفاق عليها ولكن المراجعات في تأمين الأموال اللازمة أخذت وقتاً، وعندما أنجزت تبيّن أن اصحاب الارض وهم ورثة باعوها، علماً أنها لا تصلح إلا للزراعة أو مقبرة، إذ تحيط بها ثلاث مقابر: اثنتان فلسطينية وثالثة مسيحية لأهالي درب السيم.

الأونروا والحرمان

يطارد اللاجئون في مخيمات لبنان هاجس الحرمان من إيجاد قبر كما الحرمان من الحقوق المدنية والاجتماعية والإنسانية ذاتها، يرتبطون بدورة الحياة اللبنانية اليومية كلياً، يدفعون الضرائب والرسوم، ولكنهم يعانون من الإنقطاع شبه التام للتيار الكهربائي، ومن الإزدحام والبطالة والفقر المدقع ومن قدم واهتراء البنية التحتية، وتراجع خدمات وكالة “الاونروا” في مجالات التعليم والصحة والرعاية والخدمات الاجتماعية، ما دفع بعضهم الى كتابة وصاياهم بالدفن فوق بعضهم البعض.

ويقول علي زيدان بحرقة لا تخلو من أسى “أوصيت بدفني فوق رفات أبي الذي استشهد في معركة الدفاع عن المخيمات خلال الإجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982 في مقبرة “الشهداء” في مخيم عين الحلوة،” في إشارة واضحة الى مشكلة تكدس القبور وعدم قدرتها على استيعاب المزيد”،. ويضيف “في كثير من الاحيان، ننتظر مدة عام على الأقل، ثم نعود ونفتح القبر مجدداً، هناك قبور فيها رفات ثلاثة أو اربعة موتى.

واللافت وسط الحرمان، أن وكالة “الأونروا” لم تتحمل يوماً المسؤولية بإيجاد حل لمشكلة المقابر، هي تعتبر الأمر خارج صلاحياتها، رغم أنها ساهمت أحياناً بالتجهيزات بعد إيجاد الأرض التي تتولى مسؤوليته عادةً “منظمة التحرير الفلسطينية” بالتعاون مع السفارة الفلسطينية . والطريقة المتبعة في ذلك رفع كتاب الى الرئيس الفلسطيني للموافقة على شراء أرضٍ جديدة وتخصيصها لدفن الموتى وعادة تكون على أطراف المخيمات وبأسعار مرتفعة نظراً للحاجة الماسة اليها أو بمعنى آخر لا غنى عنها.

ومع طول أمد النكبة وانتظار العودة، تعاقب على المخيم حتى الآن خمسة أجيال، جيل النكبة الذي هجر من فلسطين، وابناؤهم – الاباء، نحن الأحفاد، أولادنا وأحفادنا، وما زالت الحياة مستمرة بوتيرة قاسية، وتظهر كل يوم معاناة جديدة وآخرها الأزمة الاقتصادية وتداعياتها على الدفن، حيث بات كلفته باهظة وينوء به الكثير، إذ تصل الى مليون ليرة ثمنا لـتأمين قبر من الحفر الى البلاطة، ما عدا الكفن ومستلزمات العزاء، وفق ما يقول وفيق الشهابي “إنها المعاناة تلازم الفلسطيني في الحياة والموت معاً”.

الموت لا ينهي رحلة اللجوء

المشكلة ذاتها تكررت في مخيم البداوي شمال لبنان، فبادرت منظمة التحرير الفلسطينية الى تنظيف المقبرة القديمة لإستيعاب المزيد من الموتى، ثم تقديم أرض تولت اللجنة الدولية للصليب الاحمر ترتيبها وإقامة سور حولها لحل المشكلة.

بينما لجأ ابناء مخيم برج البراجنة في العاصمة بيروت إلى إيجاد قطعة أرض قُدمت كهبة من أحد الملاكين في المنطقة، وقد خصَّصت مقبرة داخل المخيم لكن سرعان ما امتلأت.

أما أبناء مخيم صبرا فهم يدفنون موتاهم في مقبرة “الشهداء”، في حين أن ابناء شاتيلا الذين لا يوجد لذويهم قبر قديم ليدفنوا فوقهم، ينقلون موتاهم الى مقبرة “سبلين” بعدما قدم النائب وليد جنبلاط قطعة أرض كبيرة، خُصصت لأبناء المنطقة وللذين لا يجدون قبراً في أي مخيم أو للنازحين من سوريا وحتى عابري السبيل.

وفي مخيم البص في منطقة صور، لا توجد مقبرة نظراً لضيق المساحة، فيدفن ابناء المخيم موتاهم في تجمع “المعشوق”، وامتداداً الى تجمعات الساحل الفلسطينية من “الشبريحا الى أبو الأسود”، يُدفن الموتى في تجمع “القاسمية” الفلسطيني.

وعلى شاكلة البص، لا توجد مقبرة في مخيم المية ومية في منطقة صيدا، فيُدفن الموتى في مقبرة صيدا الجديدة في سيروب مع اللبنانيين الذين لم يميزوا يوماً في التعامل مع الفلسطيني، حتى المقيم في صيدا بشكل عام وصيدا القديمة يمكنه أن يدفن ميته في ذات المقبرة.

ويصف أمين سر اللجان الشعبية الفلسطينية في لبنان عبد المنعم عوض “مشكلة المقابر بأنها “أم المشاكل” المتكررة والتي لا تنتهي، إنها حلقة في سلسلة معاناةٍ طويلة ومتنقلة من مخيم الى آخر، ونعاني دوماً من امتلائها والبحث عن أخرى بديلة، الأصل أن يكون في كل مخيم مقبرة… ولكن ضيق المساحات تجعل الأحياء والأموات يتقاسمون الارض.”

لم يعد الموت في المخيم مجرد مصيبة وفاجعة، مصحوبة بالحزن ولوعة الفراق وحرقة البعد عن الوطن. لم يعد ينهي رحلة اللجوء، المشكلة مزمنة في البحث المضني عن قبر يستريح فيه جسد اللاجىء كما باقي البشر، وبات محظوظاً من كان لدى ذويه قبر قديم ليدفن فوقهم، إنه جرح نازف بين محطة إنتظار مؤقتة وبين وصية بنقل الرفات الى أرض الوطن حين يتحرر.