مقال جسور
الهوية الفلسطينية بين الخفوت والنهوض شموليا

يقظان التقي
صحافي وأستاذ جامعي لبناني
كل خيار يجب أن يكون له معنى ثقافي. قد تطرح خيارات متعددة في حالة الشعب الفلسطيني. الحقيقة أن الناس بحاجة لتلك المواد الثقافية في بنية ثقافية غنية وآمنة ومتنوعة في القصص والأدوار . لم يجد الاحتلال الإسرائيلي وسيلة ذات مغزى لم يستخدمها ليقول فيها أن الثقافة الفلسطينية انتهت، وان أخرى هجينة بدأت من مصادر مختلفة. لكن من دون أي هيكل يربطها بالأرض. الجماعات المهاجرة الى فلسطين لا تملك أن تجعلها ناهضة بالحياة . هذه سياسة مضللة للغاية اعتمدتها اسرائيل، تؤدي الى نتائج عكسية في دولة عنصرية، لا تؤمن بالمساواة بين حقوق متعددة العرقيات والقومية.
تعمد اسرائيل إلى تفعيل الإحياء العرقي، وترفض فكرة الاندماج المجتمعي، وتضعف أشكال الصلابة المؤسسية للشعب الفلسطيني، لجعل الهوية الفلسطينية تفقد الحاحها السياسي ومحاولات اعادة تشكيلها في مجتمعات متجانسة. لعل أفضل ما يمكن ان يتوقعه اللاجئون واقعيا، هو أن يعاملوا بوصفهم لاجئيين مع ما لهم من حقوق، مع أملهم في العودة الى وطنهم بأسرع ما يمكن. حتى روح الموروث الفلسطيني التاريخي والشعري والفني، كل ما يتعلق باستعمال الرمز والاسطورة والسردية، ذاتية أم جماعية، تحاول اسرائيل أن تجعلها من دون تأثيرات، وتتحرك بلا ضفاف، ومنعها من الانخراط معا، وذلك في خدمة عناصر التشطير بين الفلسطينيين. كل خروج للهوية الفلسطينية الى العالم، يعتبر نوعا من الثورة الجديدة، وبزخم كبير في المشاركة في مواطنة الثقافات التعددية، في حين كل شيئ مبالغ فيه في تل أبيب. كل شيئ مبالغ فيه في الدولة المحتلة حتى القتل، كل شيئ تلمسه، ومعه التكلفة الباهضة للحياة .
الهوية الثقافية الفلسطينية ليست قضية خيبة، بل هي كتاب يبحث عن سبب الانخراط الكبير في خدمة قضية عادلة. تعتبر إسرائيل أن كل شيئ انتهى. بمعنى من المعاني فشل العرب في تجسيد ما كان يجب أن يتجسد. لكن المثال الثوري الفلسطيني لم يغّب، الجوهر العميق للاصوات في مواجهة سياسة الاحتلال والاستيطان. هذا يرتبط بالجيل الفلسطيني الشاب، الذي يناضل أكثر من الاجداد، من أجل الحرية. شباب يجسد الافكار التي يدافع عنها، يتمتع بالمرونة، التي يتمتع بها الأقوياء . شباب واثقا من أصوله، يجسد كل ما تكرهه إسرائيل، فيما أصبحت الحياة للإسرائيليين لا يمكن تحملها بشكل متزايد. الشعب الفلسطيني على بدايات. الدرس الذي استخلصه، أنه ليس وحده. إسرائيل تحاول دائمًا المسّ بالنار. الفصل العنصري غير مقبول في أي مكان في العالم، فلماذا يفعلها العالم ضد الفلسطينيين. الاستنتاج، هو الوفاء بمعيار يعرّف النظام الاسرائيلي على أنه “نظام فصل عنصري”. المهدد باستمرار ليس الاجتماع الفلسطيني، بل هو الإرباك الاسرائيلي، الذي لا يجرؤ على تسوية الازمات.
السؤال هذا الفضاء الفلسطيني الثقافي من سيمثله غدًا، وهو يتعرض للهجوم. هذا مصدر قلق للاسرائيلين قبل الفلسطينيين. ممارسة القوة، سردية معقدة اسرائيليًا، تنتهي ببضع خطوات يخطوها الفلسطيني على الارض. هذا ما يجري، عندما تكتشف اسرائيل أنها هي الرواية المنبوذة والمفقودة وغير المكتملة كسلطة نهائية. ليست القدس وحدها من تتعرض للهجوم، العالم الذي يشعر بالغضب من مجتمع اسرائيلي يتصرف بهستيرية جماعية. السؤال كيف تمكن الاعلام الاسرائيلي طيلة فترة احتلاله من إظهار وجه مغاير لما هو على أرض الواقع، وتصوير الفلسطينيين مجتمع ما بعد الحقيقة، مستثمرا اللعب في دور الضحية من جهة، ومن جهة ثانية دور الساعي الى السلام والامن والاقتصاد والرخاء والاستثمار، من النوع الذي روج له في تسويق صفقة القرن 2017، وفي اتفاقيات التطبيع الأخيرة مع عدد من الدول العربية ومطالبتها بالانضمام الى الاتفاقيات الابراهيمية، وعبر الاتفاقيات الموقعة تحت عناوين اقتصادية وتجارية، تنسف مضمون مبادرة بيروت العربية للسلام 2002، لتشكيل أمر واقع جديد، يتطور ليتجاوز قرارات الشرعية الدولية. .
ما هي الأدوات التي استخدمت، وكيف يتمكن هذا الكيان من تطوير هذه الأساليب (التمويل الاسرائيلي في المجموعات الالكترونية 25 مليار دولار)، في احتلال رقمي جديد للاراضي الفلسطينية؟ بالمقابل ماذا عن الدور الذي يضطلع به الاعلام العربي، الذي ادى الى خفوت الأصوات الداعمة للقضية الفلسطينية؟
أي موديل يمكن صياغته لاحياة فكرة بسيطة تقوم على أن الفلسطينيين يعرفون قيمة الأرض الثمينة جدا، ولن يكونوا في النهاية الضحية السهلة؟
ثمة قناعة بأن الحرب المقبلة هي حرب ثقافة وتاريخ، وبأن الاعلام هو الاداة التي ستتمكن من استمالة كفة الميزان في اطار تشكيل فوروم محلي واقليمي ودولي، أنجز مهام كبرى في الانتصار على الابارتهايد العنصري في جنوب افريقيا (1948-1991 ). لطالما ناصر بعض العالم قضية الحق الفلسطيني في مواجهة توسعية الاحتلال (حي الشيخ جراح) . المستوطنون الجدد ظهروا على الارض. كأنهم خلايا تتحرك في مونتاج سينمائي لفيلم قديم. صورة لا تفهم، الا كأنها أفظع مأساة يواجهها الفلسطينيون. ما تقوم به مواقع التواصل الاجتماعي الاسرائيلية والناطقة باللغة العربية وشاشات التلفزة من استخدام اي صورة، أي كلمة، اي صورة هبوط ط لطائرة عربية، في خدمة الدور الجديد، الذي يسوق لسلام من دون أرض حقيقية. اذن تحتل مسألة الهوية موقعا قانونيا وتاريخيا متميزا في النقاش العام، وليست معرضة للسكون الابدي. الحملة الاسرائيلية الشعواء على رفع الفلسطيين علم وطنهم، جزء من الصرع الذي تخوضه دولة الاحتلال ضد الرموز والهوية والسردية الفلسطينية، ومحاولة واضحة أخرى، أنها تستطيع بالقمع وتشريع القوانين، أن تجبر الفلسطينين الذين يعيشون داخل حدودها، على التخلي عن هويتهم الوطنية. تجسدت هذه الحملة في أبشع صورها خلال تشييع مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة، والهجوم عل المشاركين في التشييع. يترافق ذلك مع الحرب على رمزية الحرم القدسي، بكل ما يمثله من حساسية ورؤيا مستقبلية لكل المسلمين في العالم. ظواهر مقلقة ضد السردية الفلسطينية، من خلال انكار النكبة وحظر احيائها، ومنع نشوء هوية وطنية، تجمع الإرادات وتوحد الرؤى وتعزّز التضامن في توليد الجماعة الوطنية ذات الإرادة الواحدة بخلاف الاحتلال وما يريده.
في الصورة ، لا يمكن التفريق بين الهوية الثقافية العابرة للتاريخ وللحدود الجغرافية السياسية، وبين والهوية (الوطنية)، وهي تثبت حدودها وحقوقها ومصالحها، ولها أرضها، وهي ترتبط بها حتما في المقاربة الأنثروبولوجية. لن تنجح محاولات تكريس القطيعة بين “مكوّنات”، مغروسة في الوعي الباطني الفلسطيني، مثلما هي في الواقع.
ليست الهوية الفلسطينية ماهية غير ثابتة. هي أكثر من تعبيرٌ عن علاقة اجتماعية وفنون العيش اليومي تحت الاحتلال. هي إحدى مبتكرات الأدبيات القومية الكلاسيكية، التي ركّزت منذ القرن الثامن عشر على وحدة الشعب واللغة والثقافة والتاريخ. ليست صناعة خيالية ورمزية. لكن يخشى أن تتحول الى ما يشبه الأسطورة القومية، في التماهي مع أزمة الهوية الاسرائيلية حول الدولة القومية، أو الأمة اليهودية، التناقض مع مفهوم المواطنة والديمقراطية، علاقة يهود إسرائيل مع الاخرين، وإشكاليات الاطار الاجتماعي، والديموغرافيا، والأزمات الداخلية. الجماعات اليهودية المهاجرة الى اسرائيل هي للتملك والرفاهية. لا تاتي بلغة وثقافة مشتركة وقيم أساسية، ولا يعترف لها بعضوية في المجتمع اليميني اليهودي المتطرف. كذلك لا تعنى الهجرة الانتماء للدولة الحديثة. في حالة اسرائيل، أحد لا يعرف ما هي القوانين الناظمة للدولة.
أحدث مبدأ حق تقرير المصير، الذي أطلقه الرئيس الأميركي، ترومان، في بدايات القرن العشرين ثورة، بمقدار ما ألهب حماسة النخب الاجتماعية التي طاولها التهميش المديد، بسبب أصولها الإثنية أو الدينية، للمطالبة بدولتها الخاصة الوطنية. الشعب الفلسطيني هو الشعب الوحيد في العالم، الذي لا يتمتع بحق تقرير المصير. فيما المحتمع الدولي عاجز عن الايفاء بالتزاماته وقرارته.الشرعيّة.
ما الذي يبقى من هوية ثقافية فلسطينية، غير الفائض من إبداعها تحت الحصار. يمثل الفلسطينيون اليوم المجتمع المفتوح، ازاء المجتمع الاسرائيلي المغلق، في رومانسية الدعوة الابراهمية الدينية. بالنهاية الثقافة هي مادّة حياة البشر، التي تشكل ذاكرتهم وتصوغ مشاعرهم وأفكارهم. ذلك إن تاريخ الشعوب ومن ثم الثقافات، لا يتطابق مع تاريخ الدول، وهو سابقٌ عليها ومستمر بعدها ، وقد تعيش حقا، أو وهما.
فلسطين هي في الجوهر بنية ثقافية، وتعيد تشكيل نفسها بصورة مذهلة، خيار شجاع في قواعد الحياة (المستقرة)، على الصعيدين المحلي والدولي.