مقال جسور

بعيون فلسطينيّة: الجُهل جعلنا غرباء على أرض واحدة

بعيون فلسطينيّة: الجُهل جعلنا غرباء على أرض واحدة
 * صحافية فلسطينية 
 
منذ أن فتحنا أعيننا على العالم، وجدنا أنفسنا في مكان صغير، يتشارك قاطنوه المشكلات والصراعات اليومية، الجنسية واللجوء، والحلم الذي توارثناه عن أجدادنا، حلم العودة إلى الوطن الذي عرفناه نحن كشباب فلسطيني، من أحاديث أهالينا وأعينهم.هذا المكان -المخيم- بأزقته الضيّقة وعشوائية أبنيته وتلاصقها، تتشابك في سمائه الأشرطة الكهربائية، لتحجب عنّا ضوء الشمس وتمنعه من الدخول إلى المنازل والأزقّة، وترفرف على أسطحه الأعلام، شكل مجتمعاً فلسطينياً مصغراً. إنصهر سكانه في ما بينهم، حتى أصبحت علاقتنا تختصر على من يشاركونا مكان السكن، أما “الآخر” الذي يبعد مجتمعه عن مجتمعنا بضعة كيلومترات، أي “اللبناني”، فلم يكن لدينا احتكاك مباشر معه. كأن حدوداً رسمت بيننا لم نعِ نحن الشباب الفلسطيني واللبناني أسبابها إلاّ في وقت لاحق.
 
تتداخل مخيماتنا وتجمعاتنا الفلسطينية بالمناطق اللبنانية المختلفة، وهذا القرب ليس من الجانب الجغرافي فقط، بل يعتبر المخيم امتداداً لمختلف المشكلات والصعوبات التي تواجه المجتمع اللبناني، بالإضافة إلى قضايانا الخاصة المرتبطة بطبيعة المخيم وانعكاسات اللجوء، ولكن حواجز وهمية شيّدت بين الطرفين، الأمر الذي انعكس على طبيعة علاقاتنا كشباب فلسطيني ولبناني بشكل سلبي.
 
هذا البعد الذي ولّدته الكثير من الأسباب التي لا علاقة لنا بها كشباب فلسطيني ولبناني، كوَّن لدينا نظرة سلبية عن “الآخر”، فكان لدينا تصوّر بأنه مختلف عنّا، على الرغم من أننا نعيش في بقعة واحدة من العالم، نتحدث اللغة ذاتها، ونتقاسم الكثير من الصراعات المشتركة كشباب في بلد واحد من جهة، وشباب عربي من جهة أخرى. فتصوّرنا عن الشباب اللبناني عكّره إعتقادنا بأن الطرف الآخر لن يتقبلنا، أو سيتعامل معنا على أننا دخلاء في وطنه. هذه الأفكار سببها عدم شعورنا بالإنتماء إلى مجتمع يرفضنا بشتى الأشكال، ولأسباب خارجة عن إرادتنا.
 
تلقّى معظمنا تعليمه في المرحلة الإبتدائية والثانوية في المدراس التابعة للأونروا، فشكّلت إلى جانب المخيم، المساحة الصغيرة التي يشعر كل منّا بالإنتماء إليها دون غيرها، واقتصرت صداقاتنا في مرحلة الطفولة على أشخاص من البيئة نفسها والمحيط الضيق. أما الخارج الذي كان بمثابة عالم آخر بالنسبة إلينا، فلم تربطنا بسكانه صداقات حقيقية، على الرغم من تلقينا تاريخ وجغرافية وقوانين وقيم الدولة التي نعيش فيها “لبنان” ضمن المناهج الدراسية التي كنا ندرسها، إلا أن الأشخاص “اللبنانيين” لم نعرف عنهم الكثير، هذه المعرفة القاصرة عن التعرف على الآخر، جعلتنا “غرباء” على أرض واحدة.
 
نتقالنا من المرحلة الثانوية إلى المرحلة الجامعية، جعلت الشباب الفلسطيني الذي تسنّت له الفرصة لإكمال تعليمه العالي، يمشي خطوته الأولى نحو دخول العالم الذي نعيش في نطاقه، لكننا لم ننتمِ إليه يوماً بأي شكل من الأشكال. لذلك إعتبر كل منا هذه المرحلة فرصة للتعرف على أسلوب الحياة خارج نطاق المخيم، ومحاولة متجدّدة للإندماج في المجتمع اللبناني. لكن الشعور بالخوف من رفض الآخر، وهو هنا الشباب اللبناني، من التواصل الفعّال، والتعاون في المجالات كافة، قلّل من قدرتنا على بناء علاقات معه. هذا التذبذب في التفاعل مع الشباب اللبناني كان له في بعض الأحيان أساسه، المتمثل بطبيعة التعامل السلبي الذي أظهره البعض منهم، نتيجة لبعض التصورات الخاطئة عنّا كشباب فلسطيني يعيش داخل المخيمات، التي يراها المجتمع اللبناني بمثابة بؤرة خطرة، بسبب السلاح المتفلت، بالإضافة إلى مختلف المشكلات الإجتماعية والأمنية، والتي نرفضها نحن كشباب فلسطيني بطبيعة الحال.
 
عكّرت الصورة النمطية السلبية لدى الطرفين علاقاتنا مع الشباب اللبناني. السبب المباشر هو الحرب الأهلية  ومختلف الصراعات التي وقعت بين اللبنانيين والفلسطينيين، فضلاً عن تصوير الإعلام  المخيمات الفلسطينية وقاطنيها على أنهم السبب الرئيسي للشغب، وانعدام الإستقرار الأمني في المناطق القريبة من المخيم، وحتى في لبنان بشكل عام، فأصبحنا كشباب فلسطيني بالنسبة إلى الشباب اللبناني نموذجاً مضمراً عن مجتمع العنف.
 
تعتبر مرحلة ما بعد الجامعة، أي فترة البحث عن فرص للعمل التي تسمح بالتعبير عن قدرات ومهارات الشباب الفلسطيني الذي يمتلك الكثير من الطاقات المكمّلة لما سبقها. فالمخيم والمحيط والقوانين التي تحول دون حقنا بالعمل لا تساعد على إطلاقها. تظهر وتتضح في هذه المرحلة النظرة السلبية عن الشباب الفلسطيني كدخيل، بحيث يعتبر الشباب اللبناني أن له الأحقية بالعمل على ما عداه. هذه الأسباب وغيرها أدت إلى بناء حاجز اجتماعي، زاد من ثباته المجتمع اللبناني ومؤسساته التي لم تعمل على تطوير العلاقات المتبادلة، من خلال جلسات الحوار، أو إدماجنا في أنشطة تجمع بيننا، وتؤدي إلى كسر الحواجز وتغيير الأفكار السلبية المترسّخة في أذهاننا.
 
على الرغم من الحدود التي رُسمت بيننا كشباب فلسطيني ولبناني، والتي بالطبع لم يَختر أي من الطرفين رسمها أو تحديدها، إلاّ أن نسبة ليست بقليلة  كانت على وعي تام بأن التواصل والتفاعل مع الطرف الآخر ستكون لهما نتائج إيجابية. فلكل طرف مهارات، طاقات ومواهب، وكذلك تجارب مختلفة، والتبادل الفاعل لهذه القدرات من الممكن أن تكون حصيلته إبداعات شبابية في مختلف المجالات. هذا الأمر تحقّق في بعض المشاريع التي جمعت بيننا كشباب فلسطيني ولبناني، والتي كانت نتائجها ناجحة على مختلف المستويات. فضلاً عن إدراكنا أننا نتشارك المشكلات والصعوبات والتحديات ذاتها، والتي ترجع لطبيعة المجتمع اللبناني والفرص الضئيلة المتاحة للشباب ككل، لذلك تواصلنا في قضايانا له أثر مباشر في تقريب وجهات النظر وتوضيح نقاط التقارب بيننا، كشباب في بقعة جغرافية واحدة، قادرين على تحقيق أهدافنا المشتركة بالمشاركة الفعّالة.
 
في هذا الصدد، تشاركنا أنا وصديقتي اللبنانية في مرحلة الجامعة مختلف المشاريع، وفي أحدها إخترنا قضية خاصة بالنساء الفلسطينيات العاملات داخل المخيمات، فكان لا بد من الدخول إلى المخيم وإجراء المقابلات لإتمام التحقيق. كانت هذه التجربة الأولى لصديقتي داخل المخيم، الذي سبق وسمعت عنه الكثير، ولكنها كانت تلك زيارتها الأولى.. أخذت أتتبع نظراتها للمكان الذي تتعرف عليه للمرة الأولى والذي بالطبع رسمت في ذهنها تصوراً مسبقاً عنه. أبدت ردّة فعل إيجابية حول المخيم، ترجمته في عملها في ما بعد ضمن منصة إعلامية تتعلق بالشؤون الفلسطينية وأوضاع المخيمات.
 
تختلف تجاربنا في علاقاتنا كشباب فلسطيني مع الشباب اللبناني، والعلاقات لا تقف فقط عند المراحل الدراسية أو العملية، ولكنها تتطوّر إلى صداقات حقيقية بين الطرفين، بعيداً عن أي صور نمطيّة أو أحكام مسبقة، نتعامل فيها إنطلاقاً من طبيعتنا الإنسانية، التي تحتاج إلى الآخرين لتتفاعل وتبني روابط مع أشخاص من محيطها، لتبقى وتستمر.