مقال جسور

بعيون لبنانية: الزمن محا خلافاتنا .. فلنمضِ قدماً

بعيون لبنانية: الزمن محا خلافاتنا .. فلنمضِ قدماً
*باحث ومحلل لبناني في وكالة “Synaps” للمعلومات، متخصص في قطاع العدالة الجنائية في لبنان.

نشأت في لبنان. لم يكن باستطاعتي الهروب من قصص حرب العام 1975، ولا مما نتج عنها من صور نمطية عن الفلسطينيين. كنت أعتقد، كما العديد من اللبنانيين، أن مخيمات اللاجئين مثل عين الحلوة أو نهر البارد، ليست سوى أماكن خطرة مليئة بأمراء المخدرات والمجرمين والمتطرّفين. لكنني عندما وطأت، وللمرة الاولى قبل عامين، أرض مخيم فلسطيني، وجدت أنه بالكاد يختلف عن أي أرض اخرى في لبنان. باستثناء بعض ملصقات المقاومة والكتابات على الجدران. الشباب يجلسون في المقاهي يدخنون النرجيلة، أو يتشاركون الطعام والضحك.

 
التجربة الأولى هذه وضعتني أمام عملية بحث طويلة،  للتعرف على هؤلاء الأشخاص الذين يشعرون بأنهم غرباء جداً عنّا، رغم أننا نتحدث اللغة نفسها ونعيش جنباً إلى جنب. إلتقيت بالعائلات التي تشابه عائلات مجتمعي، تكافح من أجل البقاء وتتمسك بالأمل في أيام أفضل. الشباب الذين صادقتهم في برج البراجنة لم يكونوا مجموعة من الجانحين والمدمنين والإرهابيين الذين توقعت وجودهم، اذ انتهى بنا المطاف نتناول القهوة معاً ونتحدث  بحماسة عن حرب النجوم وحول روتين حياتنا اليومية وأحلامنا في المستقبل، وهي ترداد لمحادثاتي مع نظرائي اللبنانيين.
 
جيلنا لم يختبر بشكل مباشر صدمة الحرب الأهلية اللبنانية. في الواقع جيلنا لم يكن قد وُلد أصلاً عندما قاتلت الميليشيات اللبنانية والفلسطينية بعضها البعض. وأعتقد الآن أن الزمن قد محا بسنواته العديد من الاختلافات القائمة بين الشباب الفلسطيني واللبناني، وأن الأمر متروك لنا لأخذ زمام الأمور والبدء في حوار حقيقي.
 
ومثل هذا الحوار سيتطلّب معالجة الصور النمطية الفلسطينية على المستويين السياسي والاجتماعي. فالمجتمعات اللبنانية لا تزال مرتعبة بسبب الحرب الأهلية، تخشى التغيير الديموغرافي من خلال تجنيس اللاجئين أو توطينهم، تغتاظ من التنافس على الوظائف في اقتصاد يعاني الشلل. وفي الوقت نفسه، لا تزال السلطات اللبنانية تنظر إلى اللاجئين الفلسطينيين، وإلى حد كبير، من  منظور أمني وكتهديد لإستقرار البلاد وأمنها. 
 
وقد أخبرني العديد من الشباب الفلسطيني أن أول اتصال حقيقي لهم مع اللبنانيين حدث حين التحقوا بالجامعة.
 
لقد نشأت، مثل معظم الناس في لبنان، مع آراء مشوّهة ومحرّفة عن الجانب الآخر، هي جزئياً، نتاج  ذاكرة جماعية بائسة للحرب. لم يُمنح المجتمع اللبناني أبداً فرصة الحداد على ضحايا فظائع الحرب وإيجاد  السبل لتجاوزها. لم يتم بناء أي نُصُب تذكارية. لم يتم تعليق أي لوحات تذكارية، ولم يتم مطلقاً كتابة أي تاريخ مشترك.
 
لقد تغلغل سوء الفهم الناتج عن هذا الوضع عميقاً حتى في وجهات النظر الأساسية لكل طرف عن الآخر.. وغالباً ما يفاجأ اللبنانيون، بشكل مثير للإستغراب، عندما أخبرهم أنّ ليس في المخيمات الفلسطينية خيم بل مبانٍ بائسة ومحلات تجارية ومدارس ومطاعم ومقاهٍ. واعتقد أن مشهد شارع السوق الصاخب في مخيم البداوي سيكون بمثابة صدمة لمعظمهم. في الواقع، لقد استوعبت المدن الكبرى مثل طرابلس وبيروت وصيدا وصور المخيمات الفلسطينية في نسيجها الحضري إلى درجة أنه لا يمكن تمييزها فعلياً عن الأحياء الشعبية اللبنانية. 
 
ومع ذلك، فإن المجتمعات فيها لا تزال متباعدة عن بعضها البعض، منفصلة كما كانت دائماً.
 
هذا الإنفصال ليس نفسياً فقط. اذ لا يزال فلسطينيو لبنان البالغ عددهم 175 ألفاً، والذين يعيشون في 12 مخيماً بالإضافة إلى مدن مختلفة في جميع أنحاء لبنان، لا ينعمون حتى بأبسط الإحتياجات الأساسية من التعليم أو الرعاية الصحية أو العمل. علاوة على ذلك، فإن الشباب الفلسطيني مرتبك، حائر وممزّق بين الإحساس الناتج عن نفي المجتمع اللبناني له، وبين هويته الفلسطينية التي تتشظى على نحو متزايد. ومع عدم وجود مكان يعودون إليه أو يرنون نحوه، يعيش الشباب الفلسطيني حالة من النسيان. وهم  مثلهم مثل العديد من اللبنانيين الشباب، يتأرجحون بين التسكع مع الأصدقاء، والسعي بشدة للحصول على وظيفة، يعلقون آمالهم على الهجرة. قال لي أحد أصحاب المتاجر الفلسطينيين: “إذا منحت هؤلاء تأشيرة إلى ألمانيا، فسوف يغادرون جميعاً”.
 
تدعي غالبية الطبقة السياسية اللبنانية باستمرار بأنها تؤيد القضية الفلسطينية، خاصة في ما يتعلق بحق العودة. لكن حجّة “التوطين” تمنع أي تضامن مع الفلسطينيين في لبنان نفسه، حيث تعتمد مجتمعات اللاجئين بشكل متزايد على المساعدات الدولية. 
 
إن إدامة الوضع الراهن هو مهزلة. فالإبقاء على مثل هذا الوضع لا يقدم شيئاً لحماية حق العودة، أو معالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة بين الفلسطينيين ، كما أنه لا يخفف أبداً من الهواجس  اللبنانية. وللأسف، فان الكثير من المانحين الدوليين والجهات الإنسانية المعنية لم يفعلوا سوى القليل لتقريب الجانبين. 
 
ومع ذلك، فان أمام الشبان الفلسطينيين واللبنانيين اليوم الفرصة لفعل بما لم يفعله آباؤهم وهو: قبول بعضهم البعض.
 
قد تكون هذه عملية طويلة وبمثابة محاولة. لكن وللشروع فيها، أشجّع المزيد من الشباب اللبناني  وبكل بساطة على زيارة المخيمات الفلسطينية، ليرون بأعينهم. ويمكن للمنظمات غير الحكومية الفلسطينية أيضاً تطوير برامج لتشجيع الشباب اللبناني والفلسطيني على الإلتقاء  مع بعضهم البعض، وتبادل خبراتهم المتماثلة بشكل ملحوظ. بل يجب أن يدعم المانحون الدوليون مثل هذه المحاولات، وأن يستوعبوا فكرة أن تعزيز هذا الحوار بين المجتمعات أمر بالغ الأهمية لأي عمل ذي معنى بشأن القضية الفلسطينية في لبنان.
 
في عام 1948، فتح لبنان حدوده ليوفر للفلسطينيين المأوى الذي كانوا بأمس الحاجة إليه. واليوم، وبعد مرور أكثر من سبعين عاماً، ما زال الفلسطينيون يعاملون كغرباء في أحسن الأحوال، إن لم يكن كمصدر خطر. لقد حان الوقت لتتقدم إنسانيتنا إلى الأمام، ونفصل خوفنا من التوطين عن الحاجة إلى ضمان حقوق الإنسان الأساسية، وتوفير الكرامة لشعب لا يوجد لديه حتى الآن مكان يذهب إليه.