مقال جسور
بول غيراغوسيان: فرشاته رسمت النكبتين الأرمنية والفلسطينية

كاتب وباحث في الشؤون الفلسطينية
بول غيراغوسيان أرمني ولبناني وفلسطيني في آن. وقد اختار الفن هوية له ربما كي يعبِّر عن تعدّد هوياته ومنابته المتتابعة. إنه رسام النكبتين: النكبة الأرمنية والنكبة الفلسطينية معاً. جاء والده من موطنه الأصلي إلى فلسطين مع موجة التهجير الثانية في العام 1922، حين جرى طرد أرمن كيليكيا والجزيرة السورية العليا (مرعش وأورفة وماردين وكلس وعينتاب) البالغ عددهم نحو 75 ألف نسمة إلى سوريا. ومن سوريا انساح بعض هؤلاء نحو لبنان وفلسطين.
ثمة خلاف في شأن تاريخ مولد بول غيراغوسيان ومكان ولادته. فمعظم المصادر يذكر عام 1926 تاريخاً لمولده، ويورد القدس مكاناً لتلك الولادة. والحقيقة الراجحة أنه ولد في بيت لحم في 25 /12/ 1925، أي في يوم ميلاد السيد المسيح. ولعل مولده في آخر أسبوع من عام 1925 أزاح التاريخ قليلاً فصار ـ بحسب الأوراق الرسمية – عام 1926.
درس بول غيراغوسيان لدى راهبات المحبّة في القدس، ثم انتقل إلى دير الآباء الساليزيين في القدس أيضاً، وتدرّب على يدي الرسام بياترو أباغيتي الذي علّمه رسم الأيقونات وفقاً للتقليد البيزنطي. ورسم الأيقونات كان من المؤثرات الفنية والروحانية الأولى التي اكتسبها غيراغوسيان من مدينة القدس التي درج في حاراتها وأزقتها، وبين كنائسها وأديرتها وصوامعها حتى بلغ الثالثة والعشرين.
لم يكن الأرمن في القدس مجرّد جالية أجنبية، بل كانوا مواطنين مندمجين في هويتهم الوطنية والقومية معاً، فلم ينعزلوا داخل حارة الأرمن كاليهود في حارتهم، بل سكنوا في أحياء القدس كلّها، وانتشروا في جميع مناطقها الحديثة كالطالبية والقطمون والبقعة. والأرمن الفلسطينيون كان لهم حضورهم البشري والديني والاقتصادي في فلسطين منذ نحو 1600 سنة على الأقل، ولهم حصة من كنيسة القيامة، فضلاً عن إدارتهم مؤسسات دينية وثقافية عريقة مثل كاتدرائية القديس يعقوب ومكتبة دير مار يعقوب التي تحتوي ثاني أكبر مجموعة من الوثائق الأرمنية في العالم، علاوة على نحو أربعة آلاف مخطوطة، وكذلك مطبعة الأرمن التي أُسّست في عام 1848. ومن المشهور تاريخياً أن أول مدرسة لتعليم التصوير الضوئي في العالم العربي، ظهرت في القدس على يدي الأسقف يساي غرابيديان (البطريرك في ما بعد)، وكان ذلك في أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر. وأول استديو للتصوير في القدس أسّسه في سنة 1885 غرابيد (غرابيت) كريكوريان، ومنه تناسلت الاستديوهات الأخرى.
واشتُهر من بين الشخصيات الأرمنية الفلسطينية ليفون ملكيان وهو أشهر عالم نفس في لبنان والعالم العربي قبل أن يهاجر إلى كندا إبّان الحرب الأهلية اللبنانية، والشاعرة للي كرنيك وهي من مدينة طولكرم، وألبرت أغازريان (الناطق الرسمي باسم الوفد الفلسطيني إلى مؤتمر مدريد سنة 1991)، ومانويل حساسيان (نائب رئيس جامعة بيت لحم وسفير فلسطين الحالي في إنكلترا). ومن بين شهداء الانتفاضة الأولى هاروت كولوزيان الذي استشهد في رام الله في 11/8/1991.
إلى لبنان ومنه إلى أوروبا
كان عدد الأرمن في القدس وحدها في عهد الانتداب البريطاني نحو عشرة آلاف نسمة، أي أن عددهم اليوم يجب أن يكون خمسين ألفاً على الأقل، فيما لا يبلغون الآن الألف فقط. والسبب هو عملية الترحيل والطرد (الترانسفير) الذي خضع له الأرمن مثل بقية أبناء فلسطين، ثم الهجرة المتمادية نحو الغرب. وكان الحي الأرمني في القدس قد تعرّض لمخاطر أمنية أثناء حرب 1947- 1948 ولا سيما أنه يقع بين حارة اليهود وبقية الأحياء الإسلامية في المدينة. في هذه الأحوال المضطربة قرّر والد بول، وهو عازف كمان فقير، أن ينتقل مع عائلته إلى لبنان حيث حطّت العائلة رحالها في حيّ برج حمّود. وفي بيروت عمل بول غيراغوسيان معلماً للرسم في المدارس الأرمنية بعدما أنجز أول لوحة زيتية له في سنة 1948. وفي سنة 1956 فاز بالجائزة الأولى في مسابقة نظمها المعهد الثقافي الإيطالي، ونال منحة لدراسة الفنون التشكيلية في أكاديمية الفنون الجميلة في فلورنسا. وفي عام 1962 نال منحة ثانية من الحكومة الفرنسية للدراسة في “أتيلييه دي ميتر” في باريس.
الحداثة والقدامة
حاز بول غيراغوسيان الجنسية اللبنانية في عهد الرئيس فؤاد شهاب، وانخرط في مجرى الحياة الثقافية والفنية في لبنان، وعُدّ أحد أبرز أعلام حركة الحداثة الفنية في بيروت، مع أن التجريد والتراجيديا ما انفكّا يتجاوران في أعماله حتى آخر لوحة غير منجزة رسمها في سنة 1993. التقط شخصياته وموضوعاته من الأحياء الشعبية في برج حمّود ، أو استلّها من ذاكرته المقدسية التي ظلّت تومض بالناس المشرّدين والمقهورين والمطرودين. أكبّ على رسم الأجساد البشرية كقامات متطاولة ذات وجوه سديمية، وشدّد على رسم كُتَل الجموع اللاهثة والمقوّسة الظهور أحياناً، ما يعيد إلى الذاكرة صورتي اللجوء الفلسطيني والأرمني إلى لبنان.
****
نشأ بول غيراغوسيان فقيراً، وعاش مكتفياً، لكنه صار ثرياً بعد وفاته، فقد بيعت إحدى لوحاته في مزاد نظمته صالة “كريستيز” في سنة 2013، أي بعد رحيله بعشرين سنة، بستمئة ألف دولار. أقداره لم تمهله كثيراً، فبُترت إحدى قدميْه في حادثة مصعد في سنة 1974، وعاش بعد ذلك رفيقاً للعكاز والنظارات السميكة والفرشاة إلى أن غادرنا في سنة 1993.
نشأ بول غيراغوسيان فقيراً، وعاش مكتفياً، لكنه صار ثرياً بعد وفاته، فقد بيعت إحدى لوحاته في مزاد نظمته صالة “كريستيز” في سنة 2013، أي بعد رحيله بعشرين سنة، بستمئة ألف دولار. أقداره لم تمهله كثيراً، فبُترت إحدى قدميْه في حادثة مصعد في سنة 1974، وعاش بعد ذلك رفيقاً للعكاز والنظارات السميكة والفرشاة إلى أن غادرنا في سنة 1993.