مقال جسور

بين البارد وطرابلس قصص وحكايا.. وهموم

بين البارد وطرابلس قصص وحكايا.. وهموم

خلدون الشريف *

وسط شارع مزدحم نسبياً، كانت تقع واحدة من أهم مصابغ أبي سمراء، والمصبغة في طرابلس هي المكوى، وأبي سمراء تلة مشرفة على طرابلس سكنها متوسطو الدخل والميسورون في ستينيات القرن الماضي. تلك المصبغة-المكوى كانت لفلسطيني من مخيم نهر البارد وكان الأكثر احترافاً كالعديد من أبناء موطنه ومخيمه. 

وفي شارع الثقافة، أحد أعرق شوارع طرابلس، يقع أحد أهم سوبرماركت في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي: سوبر ماركت الصفوري، نسبة لمدينة صفورية. وصفورية مدينة فلسطينية تبعد عن الناصرة ٦ كلم شمالاً، وبعد احتلالها سكنت جالية كبيرة منها في مخيم نهر البارد. 

أبناء طرابلس الكبار في السن كلّهم يعرفون مطهّر الأولاد “الصفوري”، الذي كان يتنقّل بين البيوت لتطهير الذكور بكلفة زهيدة ومن ثم إقامة طقوس احتفالية. ومن اضطر دخول المستشفيات في طرابلس، عرف من دون شك العديد من الممرضات والممرضين الفلسطينيين من نظمي وعماد وأبو محمود وفيروز وكوكب وسواهم. 

على بعد ستة عشر كيلومتراً شمال طرابلس، وعلى مصب نهر البارد على البحر الأبيض المتوسط، يقع مخيم نهر البارد الذي كان أوّل مخيم يقيمه الصليب الأحمر في لبنان عام ١٩٤٩. شكّل وجود المخيم على الطريق الدولي بين لبنان وسوريا، سبباً لنشاط اقتصادي كبير ميّز فلسطينيي البارد عن سواهم في باقي مخيمات لبنان، فعمل ما يزيد عن 60% منهم داخل المخيم قبل نكبة فتح الإسلام عام ٢٠٠٧. واعتمد كثيرون من سكان طرابلس والمنية وعكار على مخيم نهر البارد كمركز للتبضع، حيث تخصص المخيم بتجارة مواد البناء والبورسلين والدهانات، إضافة إلى المواشي وتجارة الألبان والأجبان.

أكثر من 30%  من سكان المخيم عملوا في مجال البناء في طرابلس ومحيطها من تبليط وتلبيس وتوريق وما شاكل، كما افتتح بعضهم مصابغ في المدينة لا زال بعضها موجوداً حتى اليوم. أمّا على المستوى الطبي، فتعمل في طرابلس مئات الفلسطينيات والفلسطينيين في حقل التمريض المتاح قانوناً لهم، ويقيمون أطيب العلاقات مع الطاقم الطبي والمرضى.

ظلّت العلاقة بين المخيم ومحيطه الأرحب، مسالمة وممتازة غير أنّ حدثيْن كبيريْن أثّرا عليها، فأصيبت بنكسات وتوترات بدءاً من أحداث أيلول ١٩٦٩ وانتهت بحرب فتح الإسلام ٢٠٠٧، مروراً بمحطات لعب فيها الفلسطينيون دوراً أساسياً مثل الحرب الأهلية والحرب الفلسطينية-السورية عام ١٩٨٣ في طرابلس وجوارها. 

منذ آذار ١٩٦٨، عمدت المقاومة الفلسطينية إلى بناء قدرات مسلحة في الأردن بلغت مخيم نهر البارد في ٢٨ أيلول ١٩٦٩حيث قرّرت “فتح” بناء مكتب – قاعدة لها على أرض داخل المخيم. تدخّل الجيش لمنع بناء تلك “القاعدة”، فانطلقت أعمال شغب في طرابلس ومحيطها ومخيميْ البداوي ونهر البارد، وانخرطت فصائل لبنانية ويسارية في مواجهة قوى الأمن الداخلي والجمارك والجيش، وصولاً إلى احتلال والسيطرة على ستة وسبعين مخفراً ومراكز للأمن العام والشعبة الثانية. صدامات استمرت حتى وُقعت اتفاقية القاهرة بتاريخ الثالث من تشرين الثاني ١٩٦٩، والتي سمحت للفلسطينيين بإنشاء نقاط للكفاح المسلح داخل كل المخيمات.

وهكذا، نشأت توترات بين اللبنانيين والفلسطينين نتيجة تفلت السلاح الفلسطيني من جهة، وتكون فائض قوة عند أبناء المخيمات من جهة ثانية. وعلى الطريق الدولي، كانت حواجز المقاومة الفلسطينية تستوقف اللبنانيين وتدقق في هوياتهم، ما أنذر وقتها بنوع من النفور تطوّر حتى بلغ أوجه مع حرب نهر البارد عام ٢٠٠٧ أو ما عرف بحرب فتح الإسلام.

تلك الحرب التي اندلعت في ١٢ أيار لعام ٢٠٠٧، فعندما أراد الجيش اللبناني توقيف مجموعة سطت على مصرف، وقعت عملية قتل جماعية وطالت عناصر من الجيش في محيط مخيم نهر البارد حيث اتخذت مجموعة متطرفة، لم تكن معروفة، من ذلك المخيم قاعدة لها. استمرت تلك المعارك حتى مطلع أيلول حيث تمكّن الجيش من فرض سيطرته الكاملة بعد سقوط مئات الشهداء. حرب حقيقية تركت ندوباً يصعب علاجها ما لم تصح النوايا من الطرفين على معالجة التداعيات، على الرغم من أنّ فتح الإسلام لم تكن حركة فلسطينية، بل أم داعش وأخواتها بالمعنى الواسع.

 في العام ٢٠١٢، وبوصفي رئيسًا للجنة الحوار اللبناني الفلسطيني في رئاسة الحكومة آنذاك، اطلعت على تقرير لم ينُشر لمؤسسة دولية أظهر أنّ عدم الثقة بين المجتمعيْن اللبناني والفلسطيني قد بلغ ذروته (أكثر من 70% من المستطلعين). هذا الواقع الخطير استدعى عملاً دؤوباً لتبريد النزاع الكامن بين مجتمعيْن متجاوريْن. عملٌ انطلق برعاية لجنة الحوار اللبناني-الفلسطيني حينها واستمر ولا يزال، بسبب الحاجة الأكيدة لردم الهوة بين شعبيْن شقيقيْن يتقاسمان الهواء والماء والأرض والكلأ، إلى جانب الأزمات المعيشية والحيوية في زمن الانهيار الذي نعيشه. 

يعيش أهل نهر البارد اليوم، كما أهل سائر المخيمات، الظروف القاهرة نفسها التي يعيشها اللبنانيون، فقد سجلت البطالة أرقاماً قياسية وانخفضت قدرات الناس على العيش. ولو أنّ الفصائل الفلسطينية لا زالت تدفع رواتب منتسبيها بالدولار، وكذلك تفعل منظمة الأونروا، لا تطال تلك الأجور جميع أبناء الشعب الفلسطيني المقيم في المخيمات أو خارجها. 

يبدو التوجس اليوم عند اللبنانيين كبير جداً بسبب الضائقة الراهنة وغير المسبوقة، وتخوفهم من بقاء النازحين السوريين، إضافة إلى شعورهم بأن المجتمع الدولي قد تخلى أو يكاد عن دعم حق العودة. هذه العوامل مجتمعة تضع لبنان تحت ضغط عدد كبير من السكان في وقت باتت فيه بُناه التحتية أعجز عن خدمة المقيمين على أرضه.

هذه الظروف الصعبة تستدعي جهداً إضافياً من جانب لجنة الحوار اللبناني-الفلسطيني لإعادة تفعيل الحوار وتنشيطه ومعالجة المشكلات المتراكمة بين المجتمعيْن. وفي ظل التدهور الحاصل على الصعد المختلفة، تبرز مشكلة أساسية تزيد الوضع سوءاً، وهي تتمثل بتوزيع حبوب الهلوسة والمخدرات التي تطال جميع المقيمين على الأراضي اللبنانية مروراً بالمخيمات ومنها نهر البارد والبداوي.  

وفي هذا الصدد، يتعيّن على اللجنة التعاون مع كل المؤسسات الدولية القادرة على المساعدة في التخلص من تلك الآفة توزيعاً وتعاطياً وصولاً لاستئصالها لما تشكّله من خطر عميق على التكوين المجتمعي، ولتأثيرها المباشر على زيادة معدلات الجريمة. وهذا يتطلب تعاوناً بين الفصائل الفلسطينية والقوى الأمنية اللبنانية والجمعيات والمؤسسات العاملة كافة ضمن هذا الإطار، بتنسيق وإشراف من لجنة الحوار القادرة على جمع الكل تحت سقف رئاسة الحكومة، وتأمين التمويل اللازم لإنشاء مراكز علاج ربما ومراكز إعادة تأهيل وما شاكل.  

بناء السلام مسار طويل، لكنه حكماً يتم عبر جمع الأطراف كلها، والسعي للوصول إلى إجماعها على خارطة طريق لعلاج المشترك من المشاكل والأزمات.  

*رئيس سابق للجنة الحوار اللبناني الفلسطيني وأكاديمي.