مقال جسور
تاريخ من علاقات مخيم نهر البارد وجواره عكَّرتها معارك الـ 2007

*جنى الدهيبي
عاش مخيم “نهر البارد” للاجئين الفلسطينيين، أطواراً من العلاقات المُتغيرة مع جواره الجغرافي شمالي لبنان. وفي سعيٍ لقراءتها، بدت أنها تسلك مساراً انحدارياً لجهة تعميق عزلة أبناء المخيم الذين ما زالوا يدفعون غالياً ثمن معارك 2007، حين اندلعت اشتباكات عنيفة بين الجيش اللبناني وتنظيم فتح الإسلام، وأدت لدماره وتشريد الآلاف من أهله.
ولدى الحديث عن علاقة أبناء “البارد” بالجوار، يذهب كثيرون لوضع عام 2007، كمنعطف زمني مفصلي لهذه العلاقة، بين ما قبله وما بعده.
اليوم، يكفي الوقوف عند تخوم هذا المخيم، الذي يقع عقارياُ ضمن نطاق بلدية “المحمّرة” في عكار، حتى تتضح سمات العزلة من خلال حواجز أمنية مشدّدة عند مداخل ومخارج المخيم، الشرقية والغربية والجنوبية، يفرضها الجيش اللبناني، منذ أن خضع المخيم لسلطته المباشرة بعد معارك 2007. فقد بات الدخول إلى المخيم مهمة صعبة، على الفلسطينيين واللبنايين، ويستوجب التصريحات والأذونات الأمنية وإبراز الهويات، مع ذلك يطرح أ السؤال سريعاً: كيف يتعايش أبناء “البارد” مع محيطهم؟
دلالات المكان
يتقاطع مخيم “نهر البارد” مع محيطه، في سمات عدة. في مقدمها التشارك بالفقر والحرمان من مقومات العيش الأساسية، وانهيار البنى التحتية، وارتفاع معدلات البطالة ومعايشة جولات تاريخية من العنف ومعارك الاقتتال، وإن بسياقات مختلفة، لكن النتيجة واحدة: صبغ الشمال عموماً، بمناطقه ومخيماته، بصورة نمطية ذات أبعاد أمنية وطائفية ومجتمعية وسياسية وثقافية أثرت على علاقاته ونظرة الآخرين له.
لذا، يمكن القول أن مخيم “نهر البارد” وجواره، يتشاركون ربما، تلك “المظلومية” المتعارف عليها لبنانياً، وإن بدرجات متفاوتة.
وضمن هذا التقاطع، ثمة موجات من الانسجام تارةً والنفور طوراً، أسبابها لا تختلف عن مسببات التقاطع، يُضاف إليها إختلاف الهوية بين مواطن لبناني ولاجئ فلسطيني، اللذين وجدا نفسيهما مدفوعين، في ذاك العام المأساوي(2007)، نحو معارك لم يخططون لها كأفراد، بل دفعوا ثمنها دماءً ودماراً وموقوفين وجرحاً عميقاً لم يندمل مع مضي نحو 14 عامًا.
شهادات حية
يتحدث العديد الذين عايشوا أطوار علاقة “البارد” بجواره، بعضهم كشف هويته، وآخرون تحفظوا، وتلاقوا عند “التركيبة المعقدة” لهذه العلاقة.
دفعت ظروف مخيم “البارد”، كثيراً من الشباب الفلسطينيين لمغادرته، بحثَا عن فرصة للعيش خارج أسواره. أسامة (اسم مستعار)، 34 عاماً، وجد فرصة عمل في بيروت، لكنه يرسخ مخيم “البارد” في ذاكرته، كـ “حصنٍ أمني” معزول عن بيئته الجغرافية والديمغرافية، ربطاً بأسباب عدة، ليست معارك 2007 إلا أحداها، ومنها:
- ضعف دور الفصائل الفلسطينية داخل المخيم.
- عدم وجود راعٍ للمخيم خدماتياً واجتماعياً واقتصادياً.
- اختزال حضور الدولة اللبنانية على الجانب الأمني.
- شعور معظم أهالي المخيم أنهم منبوذون وغير مقبولين في محيطهم كونهم لاجئين لا يتمتعون بالحقوق المدنية والعملية، ولأن معارك 2007 خلفت آثاراً مدمرة وسلبية في الداخل وبالعلاقة مع الجوار.
البعد الأمني والاقتصادي
يُذكر أسامة أن مخيم “البارد” شكل سابقًاً مركزاً اقتصادياً بالغ الأهمية للبنانيين، بسبب موقعه الاستراتيجي وقربه من الحدود السورية. إذ إن مساحته تتداخل بالبحر، وجعلت منه تاريخياً نقطة مركزية حتى لعمليات التهريب نحو سوريا، وخاصة التبغ، وبالشراكة مع كبار الشخصيات اللبنانية. لكن معارك 2007، قضت على كل مميزاته الجغرافية.
يتوافق معه الناشط الفلسطيني ناصر قمر (30 عاماً)، الذي يقيم في مخيم “نهر البارد” منذ طفولته، ولم ينسَ “مآثر” معارك 2007، التي طُبعت جسدياً على كفّ يده، إثر إصابته بطلقة رصاص. قبل 2007، “لم نسمع أو نتأثر بوجود الحواجز الأمنية، كنا نعبُر ذهاباً وإياباً نحو الجوار، من دون أي مشكلة”.
وعلى مرّ سنوات قبل المعارك، ربطت مخيم “نهر البارد” مع جواره علاقة اقتصادية متينة، تفوقت أحياناً على العلاقات الاجتماعية، التي لم تخلُ من المصاهرة والزيجات المختلطة، وتحديداً مع محيط المخيم في المنية وعكار.
ينقل ناصر قمر عن أقاربه وأهل المخيم، حكايا ارتباطهم مع جواره بعلاقة اقتصادية بحتة، وكان المخيم نقطة رئيسية حيّة شمالاً، ويقصده الجوار للشراء والتعامل في التجارة العامة والمواد الغذائية والألبسة، وكان أشبه بسوق تجاري صغير، لا ينام على مدار 24 ساعة، وحتى بعض أهالي طرابلس كانوا يقصدونه للتبضع بالجملة.
أما بعد أحداث 2007، انقلب المشهد رأساً على عقب، وأثرت المعارك الدامية على علاقة أهل المخيم بالجوار. يعتبر قمر أن أهالي المخيم وقعوا ضحية نظرة مسبقة من الجوار، وكانت تضمر اتهاماً مبطناً يشي أن أهالي البارد المدنيين هم من تورطوا مباشرة بمواجهة الجيش اللبناني وقتل عناصره، خصوصاً أن ثمة عناصر كثر قُتلوا هم من أبناء عكار ومحيطها.
لذا، أفرزت تلك المعارك فجوة عميقة بين المخيم وجواره، بينما الطرفان، برأي قمر، هما ضحية واحدة لتلك الأحداث الدامية.
وتسببت تلك الاحداث وما تبعها من عدم إنجاز مشروع إعمار المخيم الذي تكفلت به مادياً الدول المانحة في مؤتمر فيينا عام 2008، بشرخ بين المخيم وجواره، وأصبح بنظر أهله وجيرانه أنه أشبه بسجن كبير، تتوارى داخله معالم البؤس والدمار وعوامل العزلة الخانقة. وفي طبيعة الحال، تأثرت العلاقة الاقتصادية بين المخيم والجوار، ويعتبر اهالي المخيم كما جواره أنها صارت صفراً.
يعتبر الناشط المدني اللبناني محمد الدهيبي، والمقيم في بلدة المنية القريبة من المخيم، أنه بعد معارك المخيم بفترة، نشأت أبنية سكنية مرتفعة غطت واجهة المخيم، وفصلته عن الطريق العام، فكرست عزلته، و”أن بعض النافذين حاولوا الاستثمار بالنقمة الشعبية اللبنانية على ما شهده المخيم”.
ويقول الدهيبي إن المخيم بقي مكتظًا ومخنوقًا بمساحته الجغرافية المحدودة، فتمدد عمودياً وليس أفقياً، “لأن شريحة واسعة من أهالي الجوار أصبحت ترفض تأجير المنازل لأهالي المخيم، إلا على مستوى شخصي محدود”. ويشير الى أن حواجز الجيش عند مداخل المخيم شكلت عاملاً نفسياً مقلقاً لأهالي الجوار، وأصبح معظمهم يفضلون عدم الاقتراب منه أو دخوله، نظراً للاجراءات الأمنية المشددة.
ويرى الناشط اللبناني أن أهالي المخيم يعيشون مظلومية كبيرة، تضاف إلى الفقر المدقع داخله وتدني فرص العمل. ويحمِّل جهات عدة مسؤولية ذلك، وأولها المجتمع الدولي، مؤسسة الاونروا، المنظمات الفلسطينية والدولة اللبنانية. ويقول إن المخيم خسر الاندماج الاجتماعي والاقتصادي، إذ بددته المعارك، وكرسته العوامل الأمنية تالياً.
لكن السيدة الفلسطينية خنساء غنومي، المقيمة في المخيم تعتبر أن تلك المعارك لم تقضِ كلياً على علاقته بالجوار، “لأنها علاقة تاريخية كرستها المصاهرة والأخوة والتلاقي الاجتماعي والتبادل التجاري”، مذكرةً أن ما يجمع المخيم بجواره هو مناصرة القضية الفلسطينية، وتفاعلهم سوياً تضامناً ودعماً عند اشتداد وتيرة العدوان الإسرائيلي في فلسطين.
أمّا “مخيم البداوي” وهو أقرب مخيم فلسطيني للـ “البارد”، ويبعد عنه نحو 7 كيلومتر، فشكل الحاضنة الأكبر لأهالي المخيم بعد تشرد نحو 27 ألف لاجئ فلسطيني عقب معارك 2007، توجه معظمهم إلى البداوي، فيما لجأت قلّة إلى الجوار اللبناني كالمنية وبعض بلدات عكار، وتوجه البعض إلى مخيمات بيروت وصيدا.
هذا “النزوح” الفلسطيني في الداخل اللبناني، ساهم أيضاً في خلق نوع جديد من العلاقات مع الجوار، ترتكز على مفهوم الملجأ البديل والحاضنة والحماية من أهوال الرصاص والمدافع والدمار، فعززوا علاقاتهم الاجتماعية والتجارية في الأماكن التي لجأوا إليها، في ظل انتظارهم الطويل للانتهاء من إعمار مخيمهم للعودة إلى منازلهم.
*باحثة وصحفية لبنانية