مقال جسور

حدود الخلاف الإسرائيلي الداخلي بشأن “قانون أساس القومية”!

حدود الخلاف الإسرائيلي الداخلي  بشأن “قانون أساس القومية”!
* باحث وكاتب فلسطيني في الشؤون الإسرائيلية، مدير وحدة “المشهد الإسرائيلي” ووحدة الترجمة في مركز “مدار”.
 
سنّ الكنيست الإسرائيلي بصورة نهائية، فجر يوم 19 تموز/ يوليو 2018، “قانون أساس القومية”، الذي يعرِّف إسرائيل بأنها “الدولة القومية للشعب اليهودي”، ويمنح أفضلية للغة العبرية على اللغة العربية، وكذلك للاستيطان اليهودي، كما يحصر تقرير المصير في إسرائيل باليهود فقط، ويعتبر “القدس الموحّدة” عاصمة أبدية لإسرائيل. 
 
والقوانين الأساس في إسرائيل لها صفة دستورية، نظراً لكونها ما تزال تفتقر إلى دستور.
 
أعتقد أن خطورة هذا القانون على الفلسطينيين في مختلف أماكن وجودهم واضحة، لكن من موقعي المخصوص في مناطق 1948 سأحاول أن أركز على الخلاف الإسرائيلي الداخلي المندلع بشأن القانون كي ألامس سقف هذا الخلاف، ومدى تماشيه مع مسوغاتنا نحن كفلسطينيين لمناهضة هذا القانون.
 
وأوّل ما يتعيّن قوله بهذا الصدد هو أنه عندما كان “قانون القومية” ما يزال “مشروع قانون” مطروحاً للتداول، لوحظ أنه في كل ما يتعلق بتحديد هوية إسرائيل ووظائفها، تتفق عليه الأحزاب الإسرائيلية الأساسية الليكود والعمل و”يوجد مستقبل” و”البيت اليهودي” و”إسرائيل بيتنا” و”الحركة”، إذ يرد في برامجها السياسية  تعريف إسرائيل كدولة يهودية، وعلى أن وظائفها العليا مُشتقة من هذا التعريف. 
وهذا ما ينسحب على أحزاب المعارضة، فنجد مثلًا حزب الوسط المُعارض “يوجد مستقبل” (علماني) يحدِّد رؤيته لهوية إسرائيل بقوله، في مقدمة برنامجه: “نحن نؤمن بأن إسرائيل أنشئت كدولة قومية للشعب اليهودي. وينبغي لها أن تبقى دولة ذات أغلبية يهودية، وذات حدود آمنة وقابلة للدفاع عنها”.
 
كذلك يُعرِّف حزب العمل (مُعارض) إسرائيل في برنامجه الانتخابي الأخير بأنها “دولة الشعب اليهودي، وبناءً عليه، فإن الحزب يعارض عودة لاجئين فلسطينيين إلى داخل تخوم إسرائيل. ويتم حل مشكلة هؤلاء اللاجئين بصورة متفق عليها بمشاركة دول المنطقة والمجتمع الدولي، ولكن ليس من خلال منح حق العودة (للاجئين)”.
 
أمّا حزب “الحركة” (مُعارض) فإن برنامجه الانتخابي يتضمن المبادئ التالية: 
 
“1- للشعب الإسرائيلي حق غير قابل للنقض في أن تكون له دولة سيادية في حدود أرض إسرائيل (فلسطين)، وطنه القومي، التاريخي، الديني والثقافي؛
 
 2- الهدف السياسي المركزي لحزب الحركة هو ضمان تثبيت دولة إسرائيل كبيت قومي للشعب اليهودي، كدولة ديمقراطية بروح “وثيقة الاستقلال”، تعيش بسلام وأمن مع جميع جيرانها؛
 
 3- إن ضمان بقاء إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية يقتضي المحافظة على أغلبية يهودية بين مواطنيها”!.
 
ومثل هذا التوافق غير منحصر في الأحزاب الإسرائيلية الأساسية ضمن الائتلاف والمعارضة فحسب، بل أيضًا ينسحب على نخب تعرّف نفسها بأنها ليبرالية، وتعتقد أن إسرائيل هي فعلًا دولة قومية للشعب اليهودي، ولا حاجة بتاتًا إلى قانون أساس يحدِّد هويتها، لأن من شأنه أن يقوِّض أسس الصهيونية ذاتها، كما لو أن ما يرد فيه يتناقض مع جوهر العقيدة الصهيونية.
 
للدلالة على موقف هذه النخب يمكن إيراد مقتطفات من “مذكرة” قدمها باحثان كبيران من “المعهد الإسرائيلي للديمقراطية” في القدس إلى اللجنة الوزارية الإسرائيلية لشؤون سنّ القوانين لدى بدء مناقشة مشروع القانون بوتائر متسارعة (المذكرة مؤرخة في 2/5/2014).
 
جرى استهلال المذكرة بالعبارات التالية: على الرغم من موافقتنا بطبيعة الحال على أن إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، إلاّ إننا نعارض مشروع القانون المُقدّم مؤخرًا في هذا الصدد، انطلاقا من أننا نرى فيه مشروع قانون خطراً يمكن أن يخلّ بالتوازن الدقيق والحساس بين المكوٍّنين الأساسيين في تعريف وطابع الدولة، وهما: اليهودية والديمقراطية. ولا يدور الحديث هنا حول قانون اعتيادي، وإنما حول قانون أساس محصّن يُحدّد هوية الدولة. ومشروع القانون المقترح يخلو من التوازن الضروري بين كون الدولة دولة قومية للشعب اليهودي، وبين كونها دولة ديمقراطية، وذلك لأنه يقصي المكوِّن الديمقراطي من مكانته المركزية إلى الهامش، بمعنى أن الحديث يدور حول انقلاب تام يغيِّر بصورة جذرية النظام الدستوري القائم في إسرائيل منذ قيامها. ويتناول مشروع القانون هوية الدولة وسط التركيز على طابعها اليهودي وتقزيم طابعها الديمقراطي، بل ويتجاهل كلياً أي مضمون في هذا الطابع الديمقراطي، ونحن نرى في ذلك تقويضاً لـ”أسس الصهيونية ذاتها”… من هنا فإن مشروع القانون يلحق ضرراً، غير قابل للإصلاح، بالعلاقات بين اليهود والعرب في إسرائيل، وبصورة إسرائيل في العالم، ويجعل الدولة مكاناً غير محتمل لكل من يتبنى وجهة نظر يهودية ليبرالية.  
 
وتعرب المذكرة عن اعتقادها بأن سنَّ هذا القانون سيشكل رافعة في أيدي القوى المعادية لإسرائيل للإدعاء ضد شرعيتها كدولة يهودية.  
 
هذه المقتطفات تدلُّ على أن معارضة القانون، من طرف القوى التي تجاهر بأنها ليبرالية، لا تتم بالأساس من ناحية مبدئية أو أخلاقيـة، وإنما فقط بسبب ما قد يستثيره من ردات فعل في العالم. كما تدل على أن هذا التوجّه يعتبر من حيث جوهره “يمينيًا مُعتدلاً”، نظراً إلى أنه من المفترض به أن يخدم المصلحة اليهودية البحتة وسط “إعطاء امتيازات مشروطة” في الحقوق للمواطنين الفلسطينيين في الداخل، وإلى أنه لا يقوم على أساس قيم عالمية ومتساوية، ترتكز على الاعتراف بالحقوق القومية الجماعية لهؤلاء الفلسطينيين.
 
ولعلّ الأنكى من ذلك هو ما يمكن قراءته بين سطور المذكرة السالفة، ومؤداه أن إسرائيل ليست بحاجة قطّ إلى نص دستوري لتمييز أفضل لليهود، ولإقامة مستوطنات وبلدات جماهيرية لليهود فقط، وغير ذلك، فهذا بالضبط هو ما فعلته الدولة بواسطة سياسة التمييز العنصري العامة التي انتهجتها حكوماتها المتعاقبة حتى الآن، إنما “على نار هادئـة” ومن دون أن تجاهر بذلك عياناً بياناً، كي لا تُضبَط وهي متلبسة بهذا التمييز.  
ومن نافل القول إن جلّ ما ذُكِر أعلاه عكس نفسه، ببريق ساطع، في معظم النقاش الإسرائيلي الداخلي الذي أعقب سنّ القانون بصورة نهائية، مع وجود استثناءات قليلة لا تلغي سُمّ وسِمَة هذا الإجماع.