مقال جسور

حكاية لاجئ جدّي عبد الدايم فنان حتى الرمق الأخير

حكاية لاجئ  جدّي عبد الدايم فنان حتى الرمق الأخير
*رسامة وقصصية فلسطينية 

بدأ عبد الدايم أيوب عبد العال رحلته في الحياة منذ أن خرج مع ذويه من مسقط رأسه في قرية الغابسية شمال فلسطين في العام 1948. كان عمره في حينه 9 سنوات وليس أكثر. استقر المقام به معهم في مخيم نهر البارد. أقاموا كما الآخرين في خيام، وتعلّم في مدرسة عبارة عن خيمة كبيرة. كان الأولاد يتجمعون تحت فيئها يتعلمون على أيدي نصف أساتذة أو طلبة يكبرونهم سناً. في المدرسة صار يرسم صور كتب المرحلة الإبتدائية على الدفاتر وورق وأغلفة المعلبات التي توزعها وكالة غوث اللاجئين على سكان المخيم، وهكذا تخلّى عن الرسم على التراب والأخشاب وغيرها من الأشياء. كانت هذه بداية رحلة طفولية مع الفن.

 
كانت الأوضاع المعيشة في المخيم قاسية، ما دفعه إلى ترك المدرسة والعمل مساعداً لوالده في مهنة الحدادة. وما إن تحوّلت البيوت من قماش الخيم إلى الإسمنت، وصار المخيم كومة من البيوت الإسمنتية، حتى فكر عبد الدايم في تغيير مهنته، بعد أن أصبح شاباً في العشرين من عمره، اختار مهنة البنّاء، لأنها الأقرب إلى هوايته وموهبته في الرسم.
 
بعد بناء البيوت والرسم على الورق والكرتون، وكأي شاب في المخيم، راح يحلم بالمدينة. يسرق الوقت ليذهب إليها ويمشي في شوارعها الواسعة. ومدينة طرابلس هي الأقرب إلى نهر البارد. هناك، تعرّف إلى أحد الخطاطين اللبنانيين الذي قرّر تعليمه أنواع وطريقة كتابة الخط العربي. كان لديه حلم كبير، أن يصبح خطاطاً في المخيم. لم يعرف في حينه العلاقة بين الخط العربي والرسم . مع ذلك حقّق حلمه، ليتفرّد بهذه المهنة وتقاليدها الجديدة بين أبناء المخيم، وبدأ يخط لافتات اعلانية تجارية ومدرسية وسياسية ولإحياء المناسبات والذاكرة الوطنية، كما كان يجري عادة في شوارع المخيم، ولكنها لم تصبح مهنته الأساسية لأسباب مادية.
 
بعد أن كثرت مسؤولياته واشتد عوده، سافر إلى العراق طلباً للرزق للعمل بنّاءً في شركة منشآت. في بغداد أخذته موهبته الى حيث يهوى، دلته على شارع المتنبي في عاصمة الرشيد، شارع الرسامين والفنانين والعازفين والخطاطين والمكتبات ودور النشر والكتب المعروضة على الأرصفة. هناك كان الجو مناسباً ليبحث عن الكتب، وليتعرّف على أنواع الخطوط وعلى أعمال الفنانين المعروضة في الشارع، وهكذا نمت وتطورت موهبته في الرسم.
ولأن الضرورة أمّ الاختراع، أجبرته حاجته أن يخترع مواد رسمه بيديه، ليصنع أدواتها من أشياء المنزل، يركِّب الألوان باستخدام زيت الكتان والتربنتين ومادة الزنك مع أصباغ الألوان التي يريدها. كنت أسمعه يصنِّف الألوان بأسماء خاصة، مثل الألوان الحارة والألوان الباردة، وفن خلط الألوان واخراج ألوان جديدة منها، وكذلك حرفة التظليل والإضاءة والتشكيل والحركة في كل عمل فني. كانت أدراجه مليئة بعلب من الألوان الزيتية، ومنها ما كان ينتجها ويعبئها في مظاريلشباك، يعجبنا أثاثها القديم ونشعر باختلافها وتميزها عن الغرف التي عرفناها في المخيم وفي أي مكان زرناه. 
 
إنتمى إلى شلّة أصدقاء يعشقون الثقافة، يجتمعون في بيت أحدهم ويتحدثون عن الفن والأدب والشعر والسياسة. أورث أولاده وأحفاده الفن وحب الثقافة والأدب، وأمّن لهم بيئة فنية جعلتهم فنانين ومثقفين مثله.
 
تتحدث لوحاته عن المكان، عن الأبنية والبيوت والشجر. في كل لوحة هناك أثر ما لمكان في المخيم، أو في فلسطين التي كان يفتش عن صور مطارحها في المجلات واللوحات القديمة التي رسمها المستشرقون.
 
بعد سنوات من عودته إلى لبنان، وخلال أحداث نهر البارد في العام 2007 إثر قيام قوّة ارهابية بافتعال المعارك في المخيم، تدمرت غرفة جدي الفنية على سطح البيت، وانتقل إلى خارج المخيم، عاش أيامه عَكِرَ المزاج. كان يسأل دوماً عن المخيم وناسه الطيبين الذين أحبهم، وفي الوقت ذاته عن غرفته التي تحتوي ذكريات الطفولة وأثر الغابسية، قريته، التي كانت بداية لكل حكاية يقصها عليَّ. ولكنه عاد إلى المخيم ثانية قبل أن تبدأ ورشة إعادة الاعمار. وجد غرفته مدمّرة، والعديد من اللوحات نصفها محروق ونصفها الآخر مدمَّى بالشظايا. مع ذلك لم يشعر باليأس، أعاد بناء الغرفة كما كانت، وأعاد تجليد بعض الكتب، بعد أن أزال أغلفتها المهترئة المليئة بالرماد، وزينت اللوحات غرفته ثانية. 
 
تراجعت صحته في الآونة الأخيرة، ولم تتحسن رغم الهدية، علبة الألوان الزيتية التي تلقاها ليعاود الرسم مجدداً. كان يشكو من أن بصره ورئته باتا معتلين ولم يعودا يساعدانه على استخدام يديه. وهكذا حتى رحل عنّا وعن غرفته يوم 11 تشرين الأول 2018، ولكن لوحاته ظلت تزّين جدرانها تحكي عن ذاكرة فلسطين الملوَّنة في عينيه حتى رمقه الأخير.