مقال جسور

حكاية لاجىء: من البص.. مصطفى يصوّر الجليل

حكاية لاجىء: من البص.. مصطفى يصوّر الجليل
*كاتب فلسطيني
كان عمر مصطفى ثلاثة عشر عاماً عندما خرج من قرية الزيب التابعة لقضاء عكّا باتجاه قانا. كان قد جاء الأمر من القائد في جيش الإنقاذ العربي أبو ابراهيم بأن تخرج النساء والأطفال من القرية ريثما تنتهي المعركة مع الصهاينة فيعود الجميع. لم تنته المعركة، أو هي ربما لم تحدث، وهو لم يعد إلى الزيب حتى اليوم. اختارت العائلة في البداية بلدة قانا لوجود معارف لها فيها، ثم كان الإنتقال إلى منطقة البص، المحاذية لبحر مدينة صور، التي كان يعيش فيها لاجئون أرمن. في ذلك الوقت كانت العائلات الأرمنية قد بدأت تنتقل إلى عنجر وبيروت تاركة منازلها  للفلسطينيين مقابل مبالغ رمزيّة من المال.
مصطفى درويش أحمد، الذي سيحدث تغيير على اسمه لاحقاً، بدأ يعمل منذ الوصول على إعالة والديه المسنّين، فكان أن باع العلكة عند موقف الباصات القريب، قبل أن يتعلم مهنة الكهرباء ويعمل في محل لبيع البرّادات والغسّالات يملكه الحاج الصوري ابراهيم دبوق. 
في عام 1959 لم يعد الطفل طفلاً. تزوّج مصطفى وصار عليه أن يجد مصدر دخل إضافياً لأنّ المئة ليرة التي كان يتقاضاها لم تعد تكفيه ليفتح بيتاً ويعيل أسرة، فكان أن تبع شغفاً لديه لم تتوفر الظروف لبلورته. حبّه للرّسم جعله يقتني كاميرا ويتعلم كيف يستخدمها ويظهّر الأفلام، قبل أن ينتقل بها إلى الشارع حيث راح يلتقط صوراً للناس مقابل ربع ليرة للصورة. هذا العمل أمّن له مدخولاً بلغ 300 ليرة شهريّاً تقريباً. عندها قرّر أن التصوير هو مهنته، فاستأجر محلّاً قرب بوّابة صور سمّاه “استديو الجليل”، ليؤكّد انتماءه وحنينه الى المكان الذي أتى منه طفلاً. منذ ذلك الحين صار يدعى مصطفى الجليل، وراح يزيد معرفته بالتصوير فتعلّم تصحيح الصور بالفحم والتلوين الزيتي على يد محيي الدين أبو ظهر، كما استلهم أساليب التصوير الفنيّة من مصوّرين سابقين على رأسهم راجي الحاج الذي لا يدعوه إلّا بالفنان.
عام 1965 سافر إلى ليبيا تاركاً الاستديو ليعود بعد ثلاثة أعوام فيفتتحه من جديد. كان قد بدأ يستهويه التصوير السينمائي، فراح يقرأ عنه ويتعلم أساليب عمل الرسوم المتحركة والتعامل مع أفلام 8 ملم، قبل أن يشتري كاميرا فيديو استخدمها في تصوير الأفراح وإخراجها، ليكون من أوائل من يدخلون هذا المجال.  واصل عمله في مدينة صور مصوّراً فوتوغرافياً ومصوّر حفلات حتى عام 1988. حينها اضطر للنزوح إلى وادي الزينة نتيجة المعارك بين بعض الاحزاب المحلية قبل أن يعود فيسافر إلى ليبيا ليفتتح استديو الجليل هناك مع أبنائه الذين ورثوا عنه المهنة. عاد إلى لبنان عام 1994، وقرّر تطوير عمله فتعلّم من مهندس الكومبيوتر  الصيداوي أحمد النتوت كيف يعدّل الصّور باستخدام الفوتوشوب. وهكذا راح يصوّر بالكاميرا “الأنالوغ” ويظهّر الصّور قبل أن يدخلها إلى الكومبيوتر بواسطة “سكانر” فيعيد تصحيحها، ويضيف إليها مؤثرات مستخدماً الفوتوشوب إلى أن اقتنى كاميرا “ديجيتال” عام 1998 استكمل معها رحلته الرقمية التي استمرت حتى إقفال المحلّ عام 2015 والسفر إلى أميركا حيث الأبناء الذين افتتح لهم استديو الجليل – فرع أميركا الشمالية.
رجع إلى مخيم البصّ مجدداً. وقرر بتشجيع من ابنه الدكتور محمد الذي يعيش معه ممارسة الرسم، شغفه الأوّل، وتطويره. في البدء كان يستخدم ألواح الكانفاس ليرسم لوحاته التي تصوّر مناظر طبيعية يستعيد فيها ذاكرة المكان الأوّل، بحيرة الزيب في القرية الفلسطينية التي أتى منها، قبل أن ينتقل إلى الرسم على جدران المخيّم وجدران مدينة صور التي يشهد كثرٌ منها على قدرة خياله رغم أنّ التجربة لم تبدأ إلّا منذ عام واحد.
أربعة وثمانون هو عدد السنوات التي أمضاها مصطفى على هذه الأرض محاولاً تسليط الضوء، حرفيّاً، على الجمال في البشر والطبيعة. وهو يؤكّد أنّه سيعيش ما عاشت رسومه وتصاويره على الجدران وفي بيوت الناس.
 ستعيش طويلاً يا مصطفى!