مقال جسور
ذاكرتان: متوجّسة ويائسة لبنان واللاّجئون الفلسطينيّون أي تلاقٍ بَنّاء؟
حتَّم العام 2005، ومع تشكيل لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني، بحثاً معمّقاً في مآلات الهواجس اللبنانيّة والانتظارات الفلسطينيّة على حدٍّ سواء. سنوات الاحتِراب كانت مدمِّرة لكلا الشريكين في القضيّة. الحقُ والعدلُ غالباً ما يتلاقيان. عدم تلاقيهما يفترض مواجهةً كارثيّة يقع ضحيتها الكلُّ معاً.
ولمّا كان انسداد أفق الحلول الديبلوماسية في مسار عملية السلام في الشرق الأوسط يتبدّى على كثافةٍ من التعقيد، رغم بعض المرتكزات في ما اصطُلح على توصيفه رهناً بجغرافيا الانخراط فيه في مدريد وأوسلو، وما تبعهما من ارتدادتٍ متعثّرة حتى الساعة، رغم سخاءٍ براغماتي في مبادرة السلام العربية، لمّا كان هذا الإنسداد زاد في توجّس اللبنانيّين ويأس اللاجئين الفلسطينييّن، فإن صيرورة ترميم الذاكرة اللبنانيّة – الفلسطينيّة المشتركة لا تستقيم باستمرار التمترس وراء شعاراتٍ سياسويّة، وديماغوجيّة، وشعبويّة وارتجاليّة. بل إن هذه الصيرورة الترميميّة المُلِحّة تقوم في فَهم مكامِن التوجّس، ومستنقعات اليأس. وفي تقديري أن التوجَّس واليأس يستبطنهما الطّرفان معاً، على الرغم من تحسنٍ ملحوظ منذ العام 2005.
في أيّ حال، وحين تُجالس مُخَضرمين عايشوا الصدام اللبناني – الفلسطيني سابقاً تَراهم في معسكرين متناقضين. منهم من صمّم على قراءة نقديّة للاعتبار. ومنهم من يُصِرّ من موقعه الايديولوجي أو الممارساتي في الشأن العام أو الخاص، يُصرّ على الانحياز لمنطق “الجلاّد” و”الضحيّة”. لم يستقِم عند بعضٍ في كلٍّ من المعسكرين خيار استيلاد الحقيقة بنسبيَّتِها. الحقيقة عند بعضٍ من كلٍّ منهما مُطلقة. وهُم معنيّون بتدعيمها بالحجج المطلوبة دفاعاً أو انقضاضاً. الدِّفاع أو الانقضاض لا يشفيان ذاكرتين مثخنتين بالجراح. ولا يعني ذلك اللاشفاء الافتراضي تجميل ماجريّات التاريخ، أو تجاهلها، أو تبريرها، بل يعني بالمُحصّلة الدعوة الصادقة لفَهمِ الجيوبوليتيك اللبناني، والفلسطيني، والاقليمي، والدَّولي الذي حَكَم هذا الصِدام. ويعني بالمُحصّلة أيضاً الدعوة للانكباب على إعادة التوازن إلى معادلة الحقوق الانسانيّة، والسيادة الوطنية، والحلّ النهائي الموجِب أن يقوم بإنفاذ العودة مواءمةً مع مقتضيات العدالة الدولية. وفي هذا الانفاذ تتموضع منطلقات معالجة اليأس والتوجّس.
لبنان واللاّجئون: الحقوق الانسانية!
لكن تحسين الأوضاع الاقتصادية – الاجتماعية يتبقّى أيضاً مرتكِزاً إلى استمرار تدخّل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بفاعليّة أكبر على المستويين الإغاثي والتنموي.
سقط في هذا المسار، أقلّه في ما يُعنى بالمفهوم، اعتبار اللبنانيين تحسين الأوضاع المعيشية للاجئين محظوراً كيانيّاً أولاً، وقناعة اللاجئين بأن إفقارهم حتميّة ثانياً. ما نحن أمامه بداية، ولو غير مكتملة، لكهنا أولى الخطوات في تمتين الصمود الإنساني للطَّرفين حتى العودة. تبقى المسافة بين تحسين الانساني والتوطين مثار جدل.
لبنان واللاّجئون: السيادة الوطنيّة!
منذ العام 2005، برزت حاضنة وطنية أيضاً، ولو ملتبِسة، لإنهاء مفاعيل اتفاقية القاهرة التي أسقطها المجلس النيابي اللبناني عام 1987. وانضم إلى هذه الحاضنة الوطنية خيار الشرعية الفلسطينية في احترام سيادة لبنان. مانع اطرافٌ فلسطينيّون معروفو التوجّهات. جاراهم في ذلك حتّى الحين بعضٌ من اللبنانيين من باب تفهّم توجّهات هؤلاء على الأقل. لكن تعطّل تحقيق قرار إنهاء حالة السلاح الفلسطيني خارج المخيّمات وداخلها أبقى سيادة لبنان منتهَكة، وأمان اللاجئين عُرضة لإهتزازاتٍ دائمة. معركة مخيَّم نهر البارد نموذج.
ما لم تُحسَم مسألة السيادة، والطّرفان معاً معنيّان بذلك، من غير المنطقي تبادل الأدوار في هذا أو الاتهامات. ما لم تُحسَم هذه المسالة، ثمّة ما سيسترجع إلى الذاكرة الجماعيّة صواعق قابلة للتفجّر، وعلى الأرجح من بوابة الاستعمالاتِ المشبوهة.
لبنان واللاّجئون: إنفاذ العودة!
منذ العام 2005، وازى رفض التوطين إنسياقٌ إلى تأكيد حقّ العودة. بدت الرفضيّة بموازاة حقيقة العدالة على تقاربٍ بنيوي. ما أُنجز في تصويب مفهومي الحقوق الانسانية والسيادة الوطنية لم يواكبه بالعمق صياغة ديبلوماسيّة لبنانية – فلسطينية عدا في الإصرار على المبدئي. المبدئي من دون العملاني هشٌ.
العُجالة لا تسمح هنا بالتوسّع في الخيارات الديبلوماسيّة، لكنّها هائلةٌ في مضامينها القانونية الدولية، والحقوقية الفلسطينية، والسيادية اللبنانيّة. لا أفهم حتى الآن إنكفاءنا معاً عن خوض سيرورةٍ واعدة في الاشتباك الديبلوماسي فيما يُعنى بحقّ العودة.