مقال جسور
رحلات الهروب من الموت.. وإليه

وقائع وشهادات من ضحايا الهجرة غير النّظاميّة من شمال لبنان
أعادت مأساة “قارب طرطوس” نكأ الجراح في قضيّة الهجرة غير النّظاميّة من سواحل طرابلس في شمال لبنان نحو أوروبا، والّتي يقدم عليها لبنانيّون وسوريّون وفلسطينيّون أملاً بالفكاكِ من الأزمة الاقتصاديّة غير المسبوقة الّتي تشتدّ في لبنان منذ ثلاث سنوات، قاصدين “الفردوس الأوروبي”، فتتصاعد في موازاتها رحلات “قوارب الموت”، وتتصاعد معها مآسي من حكايا وشهادات مؤلمة، وقبل ذلك وبعده تتكشّف جرائم وجشع وخداع مافياتٍ لا ترحم.
نتج عن رحلة الموت الأخيرة (22 أيلول/سبتمبر 2022) 104 ضحايا، أكثرهم أطفال ونساء لفظتهم الأمواج إلى شاطىء طرطوس، وعلى الإثر، يمكن القول أنّه منذ تجدّد الهجرة غير النظاميّة من طرابلس في أعقاب الحرب السّورية، أُعلِن للمرّة الأولى توقيف أحد كبار المهرّبين النّشطين في ساحل عكّار المحاذي لطرابلس. وبعد تطابق روايات على ألسنة الناجين، تتظهّر انتهاكات إنسانيّة يتعرّض لها الهاربون؛ تشكّل معاناة هؤلاء فرصة لسماسرة الهجرة غير النّظاميّة لمراكمة الثروات، حيث يفرضون بدلات نقديّة بعشرات آلاف الدّولارات، لقاء شروط سفر تنعدم فيها مقوّمات السّلامة، فضلاً عن إخضاع الهاربين لابتزاز يصل حدّ التّهديد بالقتل في حال تراجعوا عن السّفر. وينطوي هذا الاستغلال عن شكلٍ عصريّ من “الاتّجار بالبشر” الّذي ينتهي بمعظم أحواله إلى موت الضحايا غرقاً، وخسارة الناجين لأهلهم وأموالهم، فيما لا تطال المهرّبين إجراءات قضائيّة رادعة لتجدّد هذه المآسي.
وإذ بات متعارفاً أنّ الفقر المدقع هو العامل الأساس لركوب المجهول، تتناسل عن استمرار هذه القضيّة الأسئلة التالية: كيف تنامت الهجرة غير النّظامية على شواطىء عكار وطرابلس؟ وماذا يروي النّاجون وأهالي الضحايا والمفقودين حول رحلة “قارب طرطوس”؟ ومن هم الفئات الأكثر تأثّراً بالهجرة غير النّظاميّة خلال السنوات الأخيرة؟ وهل شكّلت عواقب “قارب طرطوس” ومراكب أخرى غرقت في السابق، رادعاً لانطلاق مراكب جديدة؟ ولماذا يفلت المتورّطون في هذه الجرائم البشرية من العقاب؟ وكيف السبيل إلى تفادي المزيد من دوّامة الهجرات غير النظاميّة؟
عوامل مهيّئة: حرب وفقر
تزامنت الهجرة غير النظامية الحديثة من شواطىء طرابلس وعكّار مع نشوب الحرب السورية في عام 2011. وكان شمال لبنان الّذي يعتبر مركزاً للّجوء السوريّ، يشكّل منصة لتصدير اللاجئين إلى أوروبا.
في بداية الحرب، كانت هجرة اللاجئين تنطلق جوّاً، بحيث كان السّوريّون يتّجهون من مطار بيروت إلى تركيا، ومن ثم ينفذون برّاً إلى اليونان، ليخوضوا مساراً طويلاً ومحفوفاً بالمخاطر في الغابات الّتي تنتهي بهم إلى أوروبا. وفي مرحلة لاحقة اعتباراً من عام 2021، نشطت الهجرة غير النظامية من شواطىء طرابلس وعكّار نحو قبرص فاليونان، وصولاً إلى الجزر الإيطاليّة، ومنها برّاً إلى ألمانيا. وانطلق كذلك خطّ بيلاروسيا، بولندا، ألمانيا، ولكن توقّف بحلول الحرب الروسية-الأوكرانية في شباط 2022.
عموماً، يرى المهاجرون النظاميون في ألمانيا بلد الأحلام، ويقول كثيرون أن مجازفتهم أُسّست على روايات أقارب وأصدقاء سبقوهم إليها، يصوّرون لهم حياة سيعيشونها بكرامة، بعيداً عن أنماط البؤس الّتي يقاسونها في لبنان. وهذا ما دفع بلبنانيين إلى انتحال الهوية السورية، مستغلّين الظرف الإنساني الذي شكّل للسوريّ “بطاقة عبور” إلى أوروبا بداعي اللجوء الإنساني خلال الحرب.
ومع إعلان المستشارة الألمانيّة السابقة أنجيلا ميركل فتح حدود بلادها أمام المهاجرين السّوريّين في عام 2015، وإرساء سياسات داخليّة دامجة للّاجئين، انطلق مسار هجرة غير نظاميّة عبر ميناء طرابلس وعكّار، تخوضه الشرائح الأكثر فقراً أغلبهم سوريون بالاضافة إلى لبنانيين وفلسطينيين. وعادت هذه الموجة إلى نشاط متدحرج منذ عام 2020، في انعكاس للانهيار الدراماتيكي للأوضاع الاقتصادية والمالية.
بحرٌ يبتلع جثثاً ويلفظُ ضحايا
تأسيساً على ما تقدّم، ليست ظاهرة الهجرة غير النّظاميّة مستجدّة، ولكن وقائعها المأساويّة الأخيرة أطلقت صرخات النّاجين وأهالي الغرقى والمفقودين، يطالبون السّلطات بانتشال جثث أبنائهم، وإنزال أشدّ العقوبات بالمهرّبين.
ففي ليل 8 أيلول 2020، خرج 50 شخصاً من القبّة والسويقة والراهبات، وهي أحياء فقيرة من طرابلس، إضافة إلى شبان من بلدة ببنين العكارية ومعهم عائلتان سوريّتان، في قارب بالكاد يتّسع لـ30 شخصاً. وبمرور بعض ساعات، تاه القارب في البحر، وعرف الضحايا أنّ المهرّب غرّر بهم. وتردّدت أنباء غرق قارب الهجرة الذي انطلق من ساحل المنية شمال طرابلس. وعثرت قوات اليونيفيل على ناجين في المياه الإقليمية الجنوبية، فيما لفظ البحر ست جثث من ركاب القارب. وبقي ثلاثةٌ من الرّكاب هُم عبد اللطيف حياني، مصطفى الضناوي، وقائد الرّحلة هشام صوفان في عداد المفقودين.
وبتاريخ 22 أيلول 2022 ، دوّت مأساة القارب الغارق قبالة طرطوس، وذهب ضحيته 104 ضحية (بينهم 49 رجلاً، 31 إمرأة، و24 طفلاً)، وحوالي 40 مفقوداً، و20 ناجياً. وسبقته في 23 نيسان 2022 كارثة غرق مركب قبالة جزيرة الرمكين في ميناء طرابلس، حيث توفّي 42 ضحيّة، أغلبهم من النساء والأطفال، وفقدت نحو 33 جثّة في البحر أو داخل القارب الغارق الذي استقرّ على عمق 450 متراً وتعذّر انتشاله رغم الاستعانة بغوّاصة بعد شهور على وقوع الكارثة.
وفي مطلع الشهر نفسه، انحرفت سفينة مصريّة عن مسارها لإنقاذ قارب هجرة غير نظاميّة انطلق من عكار في طريقه نحو إيطاليا. كان ركّابه الـ60 لبنانيون وسوريون وفلسطينيون (معظمهم من نهر البارد)، في مواجهة صعبة مع الموت، وذلك بعد تعطّل المحرّك في المياه الإقليميّة بين اليونان ومالطا.
وبين الأيلولين، كانت الهجرة غير النّظاميّة تحوّلت إلى عملية منتظمة تديرها شبكات عائلية، وشكّلت بلدة ببنين العكّارية قاعدة لهؤلاء.
وتتكرّر أسماء امتهنت تيسير وإجراء رحلات الهجرة غير النّظامية، أمثال ه. ص الملقّب بـ”بو طوني”، عائلة أويظة، وبلال ديب المعروف بأبو علي نديم، وهو المتورّط الرئيس في جريمة “قارب طرطوس، وع.ع الذي دخل مؤخراً عالم التهريب، كل ذلك بحسب ما تتناقله وسائل إعلام محلية نقلا عن “مصادر” مجهولة، من دون الاستناد إلى تقارير أو تصريحات أو بيانات رسمية، وهو ما يطرح علامات استفهام كبيرة.
تتولّى هذه الأسماء إدارة شبكات التهريب، من خلال تجهيز القوارب التي عادة ما تكون متهالكة ولا تتّسع لعدد الرّكاب. وينسج المهرّبون علاقات مع أمنيين لتأمين السكة مقابل بدل مالي، ويؤّمّنون طواقم القيادة والتجهيزات اللوجستية. ووصلت بعض الرحلات بنجاح إلى سواحل إيطاليا فيما تعطلت أخرى قبالة شواطئ اليونان ومالطا.
وتعتمد أغلبية الرحلات على قوارب صيد، كان يتم تأمينها من مرفأ الصيادين في ميناء طرابلس، أو مرفأ العبدة. ويؤكد أحد المصادر “بعد أن نفدت القوارب من العبدة، بدأ المهرّبون بشرائها من طرطوس”. كما تتركّز على امتداد الشاطىء الشمالي من شكّا إلى العريضة، نقاط انطلاق للقوارب، حيث تم توثيق رحلات من القلمون، الميناء، المنية، العبدة، والشيخ زناد من خلال روايات الهاربين.
تؤمن هذه الرحلات أرباحاً هائلة للمهربين، إذ يتراوح البدل من5 إلى 7 آلاف دولار للراكب الواحد. ومن اللافت، أنّ أعداد ركاب الرحلات ارتفع من العشرات إلى المئات. فإذا أخذنا القوارب الثلاثة التي غرقت منذ أيلول 2020، كان على متن الأوّل نحو 46 راكباً، وارتفع الرقم إلى 86 راكباً في رحلة القارب الغارق قبالة الميناء في 23 نيسان 2022، وليبلغ عداد الضحايا 170 راكباً في رحلة قارب طرطوس 22 أيلول 2022. إشارة إلى أنّ أحد القوارب التي وصلت إلى إيطاليا في منتصف أيلول 2022، والذي كان على متنه العشرات من اللاجئيين الفلسطينيين ومن أبناء بلدة ببنين العكارية، حمل 207 ركاب، وكان قد تعطل قبل وصوله إلى المياه الإقليمية الإيطالية حيث قبع لأسبوع قبل تقديم المساعدة له من إحدى سفن الإغاثة الإنسانية.
وبحسب الدولية للمعلومات، فإن عدد الضحايا بين أيلول 2013، وأيلول 2022، يقدّر بـ 248 ضحية على أقل تقدير، فيما بقي عدد كبير في قبرص وتركيا مجهولي المصير.
وإذا ما تحقّقت سلامة القارب، وهذا ما لا يحدث إلا في ظروف نادرة، يقع الرّكاب في خطر الاحتجاز من قبل خفر السّواحل على الشواطىء الأوروبية. وفي هذا السياق حوادث عديدة، من بينها احتجاز قارب انطلق من القلمون جنوب طرابلس نحو إيطاليا في تشرين الأول/اكتوبر 2021، احتجزته القوات التركية عند دخوله المياه الإقليمية. وحسب الناجي محمد يوسف (23 سنة)، من “حي التنك” الذي يشكّل عشوائية في ميناء طرابلس، عاش المهاجرون من بينهم نساء وأطفال ظروف إحتجاز غير إنسانيّة في زنازين تضمّ مجرمين، وسلبوا الأموال والذهب، واقتيد الرجال إلى غرف للاعتقال حيث تلقوا الضرب المبرح وصعقوا بالكهرباء.
“قارب طرطوس” والأرباح الطائلة
بحلول نكبة “قارب طرطوس”، دوّى مؤشر إنذار للخطورة التي بلغتها حركة الهجرة غير النظامية، الّتي تحوّلت سلسلة إجراميّة حصدت في حلقتها الأخيرة أكثر من مئة شخص. فيما عاد 21 ناجياً يروون وقائع أليمة تبيّن الجشع والمخادعة والتّهديد الّذي مارسه عليهم المهرّب وشبكته.
يروي الناجي زين حمد (26 سنة) تفاصيل رحلة “قارب طرطوس” الذي ركبه برفقة عروسه دعاء، وذلك بعد ظروف معيشية تعجيزية عاشاها طوال ارتباطهما منذ 6 سنوات، تكلّلت بتسريحه من الجيش اللبناني في شهر كانون الثاني/يناير 2022، وأخفقت محاولته ببداية جديدة في صالون للحلاقة في طرابلس. بعد عملية بحث، اهتدى إلى المهرب أبو علي النّديم من بلدة ببنين. وفي شهر حزيران/ يونيو، أعلمهم الأخير بتنظيمه رحلة إلى إيطاليا، لقاء 5 آلاف دولار للراكب الواحد.

حينها، قرّر الثّنائي الزّواج على عجل ليتسنّى لهما الخروج في الرّحلة، وبدءا بتجميع المبلغ. يقول زين: “بعنا كل ما نملك. حتى لابتوب زوجتي قمنا ببيعه، كما استدنّا 3 آلاف دولار”، مضيفاً “لم ندفع له إلّا 5 آلاف دولار، واشترطنا تأجيل المبلغ المتبقي إلى حين الوصول”.
وتقول مصادر خاصّة لـ “جسور”، أن المبلغ الذي يتقاضاه المهرّبون من الرُّكاب قد يتراوح ما بين 6500 و 8 آلاف دولار أميركي، في حين أن البعض منهم يدفع أكثر من المبلغ المطلوب لضمان وصوله، وقد تصل القيمة إلى 12 ألف دولار للشخص الواحد.
أدت عقبات تقنية إلى تأخير الرحلة 4 أشهر لغاية أيلول/سبتمبر 2022، بعد أن ضغطت المطالبات على المهرّب باسترجاع الأموال بسبب ما يبدو أنه مخاوف وشكوك بدأت تراود الراغبين بـ “خدماته”.
يتقاطع كلام الناجي زين، مع حديث أبو عمر، والد الشاب المفقود أسامة (17 سنة)، وهو فلسطيني من مخيّم نهر البارد، وحسب زين، “كان المهرب يؤجلنا من أسبوع إلى آخر”، و”فجأة، مساء الثلاثاء في 23 أيلول، وعند العاشرة والنصف، تلقينا اتصالاً مفاجئاً يطالبني بالتوجه إلى ببنين مع زوجتي، وعدم اصطحاب أي شخص آخر معنا”.
أيقظ زين والده، وأبلغه “أنا رايح، إذا بدك فيك توصلني، أو رح آخذ السيارة، وروح لوحدي”. كان أهل زين معارضين للرحلة، إلا أنّ الشاب أصرّ على خوضها من أجل تأمين حياة لوليده، فقد كانت دعاء حامل بأشهرها الأولى.
عند منتصف الليل، توجه الزوجان إلى موقع في ببنين حدده المهرب. وبعد برهة، نقلا إلى منطقة زراعيّة بواسطة شاحنة “بيك آب” مزدحمة بالرّكاب بحيث لا يمكن الجلوس. بعد ذلك، بدأت عملية نقلهم إلى أحد مراكب الصيادين. يلفت زين إلى أنّ مركب الصيد حمل على متنه حوالي 50 أو 60 شخصاً، وفهم من لهجاتهم أنّهم كانوا من جنسيات مختلفة، منهم لبنانيّون وفلسطينيّون وسوريّون. وعندما وصل مركب الصيد بهم إلى وسط البحر، تعيّن عليهم الانتقال إلى القارب الأساسي الذي سيبحر بهم.
ويشير زين إلى أنّ الليل أخفى حقيقة العدد الهائل الّذي يفيض عن استيعاب المركب، و”ما إن بدأ الظلام بالإنحسار، كانت الصدمة. كان عددٌ كبير من الركاب وقوفاً، وحيثما ننظر نجد ركّاباً، في أسفل المركب وأعلاه، وعلى الأطراف”.
أجلس زين زوجته على غالون للمازوت، فيما بقي واقفاً. بعد مدّة قصيرة، بدأت المياه بالدخول إلى القارب، وأبدى قبطان المركب (أسامة حسن) تردّده في إكمال الرّحلة ” على بُعدِ أمتارٍ من القبطان، كنت أستمع إلى مكالمة يجريها مع المهرّب (أبو علي)، يبلغ بأنّه لا يريد إكمال الرحلة لأن عدد الركاب كبير جداً، والمركب غير قادر على الإستمرار”، يقول زين مؤكداً “سمعت المهرّب يردف: لا يمكنك العودة، لقد دفعت 170 ألف دولار ثمن السكّة من أجل تجاوز الرقابة الأمنية”، ويضيف: “بعد أن تعطل المحرك، حاول القبطان تركيب محرك إحتياطي يعمل على البنزين، إلّا أنّه لم يعمل”.
من ناحيته، يخبر أبو عمر أنه كان يعارض الرحلة، إلا أن المهرّب أقنعه بأن القارب سيحمل عدداّ محدوداً من الركاب، ويبلغ طوله 18 متراً، وعلى متنه 70 راكباً فقط، ومجهّز بمحركين إثنين، وأراه صّورةً لمركب بهذه المواصفات!
يكمل الوالد “لم يطمئنّ قلبي. قبل أسبوع من الرحلة، قصدتُ المهرّب، طالباً منه أن يعيد الأموال التي تقاضاها من إبني، فتعهّد أبو علي بأن يعيد المبلغ خلال أسبوع”، مضيفاً “عدت إلى عملي في مخيم شاتيلا، وفي بالي أن الرحلة قد ألغيت. في اليوم نفسه، تلقى إبني إتصالاً يطلب منه أن يحضر ليسافر بالقارب”.
يتابع الأب: “تبيّن لنا لاحقاً من الصور أنّ القارب بطول 12 متراً، وعلى متنه أكثر من ضعفي العدد المزعوم، وتوزّع الرّكّاب على ثلاث طبقات، حيث أضيف قسم علويّ إلى القارب.
الأب، كحال كثيرين، لا يزال معلّقاً ببصيص أمل بأن يكون ابنه على قيد الحياة.. ويعود يوماً ما.
الطريق إلى الغرق المحتوم!
ويروي الناجي زين أنّه “عندما انطلق عدّاد الغرق، لم يعد أمام الركاب المذعورين سوى الإنتظار، أملاً بمرور قارب يغيثهم. وما لبثت أن هبّت رياح قوية، وارتفع الموج. أخذ القارب يتمايل، فراحوا يتنقلون من جانب إلى آخر، محاولين تأمين نوع من التوازن لمنعه من الغرق. لكن المياه راحت تتسرب أكثر فأكثر، وصراخ الرّكاب المذعورين بلغ منتهاه، إلى أن انقلب القارب رأساً على عقب في غضون 4 دقائق فقط، “قبل أن تصبح الشمس حامية”، يقول زين واصفاً تلك اللحظة المخيفة.
بعد برهة، أخذت جثث الغرقى تطفو على السطح، فيما يحاول البعض الإمساك بالآخرين. يتابع الناجي “أمسك أحد الغرقى بزوجتي دعاء، فجذبتها نحوي، وسبحت بها بعيداً. وجعلتها تمسك بلوح خشبيّ”. سبح الزّوجان في عرض البحر إلى أن أنقذهم قارب للصيادين في مياه طرطوس بعد نحو 36 ساعة. وكانا قد عثرا على حقيبة تطفو على سطح البحر، فيها بعض حبات من التفاح واللّيمون، تناولا بعضها وخبّآ ما قد يعينهما للبقاء على قيد الحياة.
يختم زين: “لا أذكر أكثر سوى دقيقتين بُعيد وصولي إلى المستشفى، غبت في حينها عن الوعي. عدت إلى لبنان بعد بضعة أيّام محمّلاً بصدمات الموت ولحظات الرعب، وأعباء نفسيّة ثقيلة”. خسر الزوجان وليدهما وكلّ مدّخراتهما، ولسان حالهما يصرخ “عدنا مضطرين للتعايش مع المكان الذي يحاصر أحلامنا، ولكن يبقى الثّمن أقلّ من الّذي دفعه أولئك الّذين خسروا حياتهم”.
المخيم إذ يضيقُ بأحلام لاجئيه
أعاد “قارب طرطوس” إلى الواجهة انعكاس الأزمة اللّبنانيّة على المخيّمات الفلسطينيّة، والتي تعاني بالأصل ظروفاً اقتصادية خانقة، من أسبابها الحرمان من أبسط الحقوق في العمل، فالفلسطيني اللاجئ ممنوع من ممارسة عشرات المهن في لبنان.
يقول الشاب طه فرغاوي، ابن عم المفقود في “قارب طرطوس”، محمود ناصر فرغاوي (21 سنة) من مخيم نهر البارد: “كان محمود عاملاً بصورة متقطّعة، فيما يبحث بدون هوادة عن وظيفة لتأمين مستقبله لكن محاولاته ذهبت سدى. ولطالما طمح إلى الهجرة مثل بقية الشباب في المخيم”.
ويروي النّسيب أن محمود صمّم على الهجرة غير النّظاميّة بعد أن أغري بسهولة الأمر. وتكرّرت محاولاته، فوصل في المرّة الأولى إلى الميناء، وعاد أدراجه. وفي المرة الثانية، وصل المركب إلى قبرص لكن السلطات رفضت استقبال المهاجرين فأعيدوا إلى لبنان. وفي المرةِ الأخيرة، بات محمود في عداد المفقودين.
وتفيد المعلومات الصادرة عن أمين سرّ الفصائل الفلسطينية في الشمال، المكلّف بمتابعة الملف، أبو اللواء موعد، أنّ 28 فلسطينيّاً حملهم قارب الموت الأخير، بينهم نساء ورجال وشباب وأطفال، وهم لاجئون داخل مخيمات مختلفة تتوزع بين برج البراجنة وشاتيلا ومخيم الرشيدية، وتوضح هذه المعلومات أنّ 23 فلسطينيّاً من أصل 28 هم من مخيم نهر البارد. في وقت بلغ عدد الناجين الفلسطينيين 5 فقط، ولا يزال 11 فلسطينيّاً مفقوداً حتّى الآن. وأكّد موعد أنّ 20 جثّة لا تزال في مستشفى الباسل في طرطوس.
وبحسب الصليب الأحمر اللبناني، فإن وحداته نقلت من مستشفى في طرطوس في سوريا خلال الفترة من: 23 أيلول 2022 إلى 27 ايلول 2022: 29 جثّة (17 لبنانياً، 10 لاجئين فلسطينيين، وسوريين اثنين)، و4 مصابين (لبنانيّ واحد و3 لاجئين فلسطينيين). (أنظر الملحق)
بعد مرور شهر على غرق “مركب طرطوس”، لا تزال أجواء الفاجعة تخيّم على نهر البارد. ولا يزال الأهالي يتناقلون روايات عن ألسنة النّاجين حول الرحلة المشؤومة، ويطالبونهم بتفاصيل حول اللّحظات الأخيرة لأبنائهم وأصدقائهم الضحايا والمفقودين.
ومن هؤلاء مأساة قبطان المركب (أسامة نافذ حسن)، الذي توفي مع زوجته وأولاده الأربعة الّذين تتراوح أعمارهم من سنتين إلى 7 سنوات. يروي الناجون أنه قبل انطلاق الرحلة، شبّت ملاسنات بين أسامة والمهرّب بلال ديب، لأنّ الأوّل رفض قيادة المركب بسبب انعدام مقوّمات السلامة، لكنّه رضخ تحت تهديد المهرّب بالسلاح بأنه سيقتل أولاده، فما لبث أن قضى الأطفال غرقاً مع أمّهم وأبيهم.
أمّا النّاجي محمد اسماعيل، الذي أنقذه مركب روسي، ونُقل إلى مستشفى الباسل في طرطوس، يعيش اليوم حالة نفسيّة حرجة إثر فقدانه زوجته وبناته الثلاث وابنه، وهم أبحروا بصورة فاجأت الجميع، في الليلة التي قضتها زوجته في سهرة عند أهلها، ما يؤكّد أنّ الهاربين فوجئوا بالرحلة. وبعد محاولتنا الاتصال بمحمد إسماعيل، فضّل طبيبه عدم تحدّث النّاجي إلى الصحافة، تفادياً لتدهور أكبر في وضعه النفسي.
يحدّد الناجي إبراهيم منصور(29 سنة)، أنّ الرحلة انطلقت من شاطىء المنية عند الساعة 3:30 فجر يوم الثلاثاء (20 أيلول/سبتمبر 2022)، و”كانت الرحلة محفوفة بالمخاطر منذ بدايتها، حيث أنّ محرك المركب تعطّل عدّة مرات، إلى أن تعطّل بالكامل على مقربة من السواحل السورية. اتصل أسامة نافذ حسن بالمهرّب أبو علي، يطالبهُ بإرسال مركب ثانٍ، فاستمرّ الآخر بخداعه قائلاً أنّ مركباً ثانياً سيدركنا خلال خمس دقائق، وحصل ما حصل”.

وطوال 48 ساعة، سبح ابراهيم مع رفيقيه محمود فرغاوي (مفقود) وعبد الله السعيد (متوفّى)، وقد ضلّ طريق البرّ لساعات طويلة بسبب الظلام المطبق. يتابع إبراهيم “أغمضت عينيّ مستسلماً لتعبي، لأستفيق على متن قارب روسيّ انتشلني من البحر. عاملني المنقذون معاملة حسنة، ونقلوني إلى مستشفى الباسل في طرطوس”.
عاد الشاب الناجي إلى المخيّم، حاملاً أوزار الصّدمة واليأس، وضرراً في شبكة عينه اليسرى بسبب المياه المالحة.
على المقلب الآخر، يتّضح أنّ شباباً من المخيّم يندفعون إلى الهجرة غير النّظامية لأسباب لا تقتصر على الفقر، إنّما ينشدون فرصة حياة أفضل، والمزيد من التطور المهني. وهذا ما تؤشّر إليه سيرة المصور الفوتوغرافي الفلسطيني المفقود يحيى وهبة (25 عام). عمل الشّاب مصوّراً محترفاً، ومتعهّد حفلات وشارك في أعمال فنية عدة.
يؤكد باسل وهبة، عمّ المفقود، أنّ وضع الشاب المادي جيّد، وعمله مزدهر، كما أنّه يمتلك كاميرات وعدة بآلاف الدولارات، إلا أن طموحه كان أوسع من حدود المخيم.
وما ينطبق على يحيى ينطبق على القبطان أسامة حسن. يقول باسل أنّ أسامة، وهو ابن شقيقته “كان يعمل في البحر، ويمتلك قارباً جديداً بآلاف الدولارات. ولكنه أراد لأولاده مستقبلاً مستقراً في بلجيكا أو دولة أوروبيّة أخرى، على ما أخبره كثيرون، وهذا لن يتيسّر لهم في المخيم”.
يؤكد باسل أن ظروف مخيم البارد لا تطاق، فقد خرج منه 40 شخصاً في الرحلة الأخيرة فقط، أغلبهم من المفقودين الذين ينتظرون إجراء فحوص الحمض النووي DNA لجلاء مصيرهم “في المخيم لا كهرباء منذ شهرين، ولا مياه للشرب، فمياه الشفة هنا مالحة، والبطالة منتشرة، ناهيك بانتشار الأمراض، والظروف الصحية السيئة، وغيرها من ضروب المعاناة”.
وبصوت متهدّج يخنقه الأسى، تصف والدة أحد ضحايا المركب لـ “جسور” وقع خسارة ابنها عليها، بـ”خسارة الكون بأكمله”. لم تكن الأم تتوقّع ما سيحلّ بابنها في البحر، كما أنها لم تعلم مقدار الظلم، والضغط النفسي الذي يكابده المهاجرون مع “تُجار البشر”، مردّدة: “هلقدّ هني بيجلدوا لحم الشخص بطريقة ذكيّة؟”.
وتابعت السيدة المكلومة، تغالبها الدّموع “ابني لم يرَ شيئاً من الحياة. كان أمله الوحيد أن يعيل المنزل، ويساعد شقيقه المريض”. وختمت بطلب السماح من فقيدها “الله يرحم ترابك يا إبني، يا ريت ما بعتّك على الموت… سامحني”.
ناجٍ لكنه مفقود؟!
أمّا في عكّار، يقول شقيق المفقود فؤاد حبلص من بلدة زوق الحبالصة، أنّ شقيقه ظهر على وسائل الإعلام وذُكر اسمه ضمن أسماء الناجين، يضيف: “توجّهنا فوراً إلى مستشفى الباسل للإطمئنان عليه، وكانت حالته الصحيّة شبه مستقرّة”. وبعد أن نُقل فؤاد في اليوم التالي إلى المستشفى العسكري في طرطوس، فقدت العائلة التواصل مع ابنها. ولفت شقيقه “تواصلنا مع الأجهزة الأمنيّة السّوريّة الّتي ردّت بعدم ورود معلومات حوله. ولا يزال شقيقي مجهول المصير”.
وترجّح روايات الأقرباء فرضية أن يكون حبلص مطلوب أمينّاً. فشقيقته كانت زارته برفقة زوجته بعد حادثة الغرق، ووثّقت زيارتها بالصور والفيديو، وعند عودة الزوجة في اليوم التالي، فوجئت بنقل الناجي إلى المستشفى العسكري. وهناك، رفض عنصر الأمن إدخال الزوجة، بحسب روايتها، قائلاً “غير الله ما بقا يشوفو”.
ويطالب الأهل الدّولة بأجهزتها كافة بتحرّي أثر ابنهم المفقود في سوريا، وهم مسكونون بالحزن والأسى على مصير مفقودهم الذي يبدو أنّه هرب من ظروف صعبة إلى مصير أصعب.
ممنوعون من وداع الأحبّة
حلّ “قارب طرطوس” على السوريين في لبنان بفاجعة مزدوجة، فالضحايا لم يتمكّن أهاليهم من توديعهم ودفنهم. الشاب السوري أيمن قباني (19 سنة) هو واحد من هؤلاء. يقول صهره بشار أنّ “أيمن من أم لبنانية، وأب سوريّ مجنّس، كان يحلم بحياة أفضل في أوروبا، خصوصاً بعدما توفّي والده منذ خمسة أشهر”.
لم يستطع الأهل نقل جثّة أيمن إلى بلدة عيات العكارية، حيث ولد وترعرع. يقول صهره بشار “إضطررنا إلى دفنه في حمص، لأن الأمن العام اللبناني رفض إنتقاله إلى لبنان بحجة أنه سوري”، وتأسف العائلة لهذا الأمر، لأن الوالدين لبنانيين.
كذلك، دُفن اللاجىء السّوريّ الشاب مصعب رحمون بعيداً عن أهله في لبنان، وبدون نظرة وداع. لم يجرؤ ذووه على دخول سوريا لنقل جثمان ابنهم، فهم من محافظة إدلب في الشمال السوري الواقعة خارج سلطة النظام، وقد حضر بعض من أقاربه واستلموا جثمان الشاب ودفنوه في إدلب. ويؤكد ذوي الضحيّة أنه “خرج من دون علم العائلة. ظننّا أنّه كان يمازحنا بقوله أنّه يعتزم الهجرة عبر القارب، ولكنّه فعلها بدون أن يعلمنا”.
منذ فقدان ابنها على “قارب طرطوس”، تعيش والدة الشاب السوريّ محمد سلواية (26 سنة)، وهو من أب سوري وأمّ لبنانية، ككثيرات، على أمل بقائه حيّاً. ويروي مصطفى، شقيق الشاب المفقود، أنّ والدته وخاله غادرا إلى سوريا للبحث عن شقيقه الذي كان يعمل حلّاقاً، ويحلم بأن يتغلب على داء “التعلبة” التي غزت رأسه ولحيته. وتأمل عائلة المفقود أن يعود محمد مع أمّه “قد يكون على أحدى الجزر المهجورة قبالة طرطوس”، يقول الأخ، مشيراً إلى أنّه غادر مع رفيقيه مصطفى مستو، وهو ضحية من طرابلس رحل مع كامل عائلته، والناجي زين حمد.
إحتجازٌ في إنطاليا
لا يخيف الموت وكلّ مخاطر الهجرات غير النظاميّة مَن فضّلوا ركوب المجهول والمجازفة بأنفسهم هرباً من جحيم البلاد. هذا ما يؤكّده استمرار هذه الرّحلات، وآخرها قارب انطلق تزامناً مع “قارب طرطوس” خلال الأسبوع الأخير من شهر أيلول/سبتمبر 2022، وعلى متنه 352 مهاجراً غير نظاميّ، من بينهم 180 مهاجراً من بلدات عكّارية والبقية سوريون ومن اللاجئين الفلسطينيين، جلبتهم قوى خفر السواحل التركيّة إلى شواطىء إنطاليا، ومن بين العالقين أطفال لم تتجاوز أعمارهم السنتين.
وفي وقت تفيد المعلومات أن لبنانيين ممن غادروا بطرق غير نظاميّة عالقين في مديني أنطاليا وإزمير، أفاد بيان صادر عن المديرية العامة للأمن العام بتاريخ 17 تشرين أول/اكتوبر 2022 أنه “على إثر قيام خفر السواحل في الجمهورية التركية بتاريخ 22/9/2022 بجلب سفينة إلى شواطئ انطاليا، كانت قد أبحرت من شمال لبنان وعلى متنها ثلاثمائة واثنان وخمسون مهاجرا غير شرعي من بينهم مائة ومهاجر لبناني، كلف المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم الجهاز المختص في المديرية بإجراء الاتصالات اللازمة مع الجهات المعنية في الجمهورية التركية ومع سفير لبنان غسان المعلم، وذلك لمتابعة أوضاع اللبنانيين الموجودين في مركز انطاليا، والوقوف على احتياجاتهم والعمل على تسريع الاجراءات الآيلة لتأمين عودتهم الى وطنهم، وكذلك معالجة ملف المهاجرين غير اللبنانيين الذين كانوا أيضًا على متن السفينة”.
وهنا تطرح أسئلة عديدة، فالعدد الكبير الذي تحدث عنه البيان (وهو 352 مهاجراً غير شرعي) يشكّل بحدّ ذاته فضيحة! كيف خرج هؤلاء، وكيف تجمعوا، وكيف تمّ نقلهم إلى عرض البحر، ولماذا لم يتم اعتراضهم من أي جهة؟
وبُعيد حصول مأساة “قارب طرطوس”، اعتصم عدد من أهالي هؤلاء عند مستدير العبدة، على المدخل الجنوبي لعكّار، مناشدين الدولة متابعة قضية أبنائهم العالقين في تركيا.
من جهته، أوضح مختار بلدة ببنين زاهر الكسار أنّه بالاضافة إلى المهاجرين العالقين في تركيا (101 شخصاً في أنطالياً، و86 في شاماكالي وازمير)، يوجد في اليونان 25 شخصاً عالقاً، ويتحدث آخرون عن عالقين في جزيرة مالطا أيضاً.
وكانت المديرية العامة للأمن العام أصدرت بياناً بتاريخ 17 تشرين الأول/أكتوبر حول جهود يقوم بها سفير لبنان في تركيا، غسان المعلم لمتابعة أوضاع اللبنانيين الموجودين في مركز إنطاليا، والعمل على تسريع الإجراءات الآيلة لتأمين عودتهم، لكن اللّافت إلى أنّ البيان لم يأت على ذكر إجراءات متعلّقة ببقيّة الركاب من سوريين وفلسطينيين ويقدّر عددهم بنحو 170 مهاجراً. وقد وصلت أول دفعة من محتجزي أنطاليا إلى مطار بيروت بتاريخ 21 تشرين الأول/اكتوبر 2022.
في منظار القانون
على مستوى القوانين الدولية، تؤكد المحامية عتيبة مرعب لـ”جسور” أن وصف “الإتجار بالبشر” ينطبق على قوارب الهجرة غير النظامية في لبنان، حيث يستغل المهرب حاجة الفرد للهروب أو البحث عن واقع أفضل من أجل تحقيق ثروات طائلة.
وتضيف الخبيرة القانونيّة أنّ الجمعية العامة للأمم المتحدة تبنت “إتفاقية مكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية” (العابرة للحدود)، وتبنت البروتوكولات المكملة لهذه الإتفاقية، على وجه التحديد بروتوكول مكافحة تهريب المهاجرين عن طريق البر، والبحر، والجو. وقد صادق لبنان على الاتفاقية وبروتوكولاتها في عام 2005 ثم أصدر في 24 آب 2011 القانون رقم 164/2011 المتعلق بمعاقبة جريمة الإتجار بالأشخاص، وأضيف هذا القانون إلى الباب الثامن من الكتاب الثاني من قانون العقوبات، واعتبرت جريمة الإتجار بالأشخاص جناية تتراوح عقوبتها بين 5 سنوات و15 سنة بحسب الجرم المرتكب.
وبالرغم من ثبوت الأحكام الجزائيّة على الجنح والجرائم الّتي يرتكبها المهرّبون، إلّا أنّ الهجرة النّظاميّة لا تزال سارية في لبنان، ولا تتداعى عنها محاكمات قضائية وعقوبات بحقّ المتورّطين، الأمر الّذي يطرح الشكوك حول تراخي السلطات اللبنانية في عمليات الضبط والمحاسبة، واستفادة المهرّبين وتدفق “قوارب الموت” في ظلّ حالة سافرة من الإفلات من العقاب.
وبالنتيجة، لا يفاجأ مراقبون باستمرار المهربين في أعمالهم بالرغم من كارثة قارب طرطوس، وهذا ما أبرزه بيان صادر عن قوى الأمن الداخلي بتاريخ 1 تشرين الأول/أكتوبر 2022، حيث أحبطت دوريات شعبة المعلومات في محلة العريضة في عكار شمال لبنان محاولة الإعداد لرحلة جديدة إلى إيطاليا، وأوقفت 3 أشخاص من الضالعين بأعمال تهريب البشر، وهُم أ.أ لبناني من مواليد 1999، وع.س. لبناني من مواليد 1997 ، و ع. أ. لبناني من مواليد 1963، ويضاف هؤلاء إلى أكثر من ثلاثين مهرّباً أوقفتهم قوى الأمن الداخلي خلال 2021 – 2022 متورطISF 2ون بعمليات تهريب مئات الأشخاص (انظر الملحق).
أيضاً وأيضاً، أحبطت قوة من الجيش عملية تهريب أشخاص عبر البحر عند شاطئ بلدة شكا، وأوقفت 55 شخصاً من الجنسيات، اللبنانية والسورية والعراقية، كما أوقفت دورية من مديرية المخابرات المواطن (ح.ط.) صاحب المركب المستخدَم في العملية، والمواطنَين (خ.ط.) و( أ.ط.) المتورطَين فيها، بحسب بيان للجيش.
وعلى إثر مأساة “قارب طرطوس”، أعلن الجيش اللبناني بتاريخ 21 أيلول/سبتمبر 2022 في بيان توقيف المهرّب بلال ديب الملقّب (أبو علي نديم) وإخضاعه للاستجواب. وبحسب بيان الجيش فقد “اعترف بالإعداد لعملية التهريب الأخيرة من لبنان إلى إيطاليا عبر البحر بتاريخ 21/ 9/ 2022، والتي أسفرت عن غرق المركب قبالة الشواطئ السورية بتاريخ 22/ 9/ 2022… وثبت نتيجة التحقيق تورطه بإدارة شبكة تنشط في تهريب مهاجرين غير شرعيين عبر البحر، وذلك انطلاقاً من الشاطئ اللبناني الممتد من العريضة شمالاً حتى المنية جنوباً”.
ويصرّ الأهالي على عدم إفلات المهرّب من المحاسبة، كما يجدّدون المطالبة بمحاسبة الأمنيين الّذين تقاضوا الرشى و”حق السكة” للتعامي عن رحلات “قوارب الموت”. ولا يتردّد أحد أهالي الضحايا بالقول “إن لم يُحاسب، أو في حال التوسط له من أجل إطلاق سراحه، نحن نعرف كيف نستردّ حقوقنا بأيدينا منه ومن أفراد عائلته”.
وبحسب تقرير بثّته محطّة “المؤسسة اللبنانية للإرسال” في 3 تشرين الأول/أكتوبر فقد نقلت النيابة العامة التميزيّة ملفّ “مركب طرطوس” من مخابرات الجيش إلى شعبة المعلومات، ومن المستبعد إخلاء سبيل المهرّب بلال ديب. وتكشف المعلومات أنّ بلال ديب لم يكن وحيداً في الشبكة التي توارى منذ اللحظة الأولى معظم أفرادها، وهي تضم شقيقه يوسف ديب، إضافة الى العسكري عبدالله ديب الذي حضر إجتماعات تحضيرية، وتولى نقل عدد من المهاجرين الى نقاط التجمع، واستُخدم منزل محمد ب. في ببنين لتجميع المهاجرين الذين أتوا من طرابلس. وتحدّث بعض الناجين عن نقطة للتجمع في بستان للّيمون يقع خلف مخفر العبدة، كما أشاروا إلى تواري أحد الضالعين بالتهريب عن الأضواء وبدعى وليد ح.
كما أفادت وثائق جمركية، والفاتورة المتعلقة بشراء المركب، أنّ بلال ديب، شقيق يوسف ديب، اشترى المركب (الذي غرق قبالة طرطوس) في شهر تموز/يوليو 2022 من طرطوس، في حين بلغ سعره من دون رسم جمركي 8000 دولاراً أميركياً، وبلغ طول المركب 12,95متراً، وعرضه 4,20 متراً.
واللافت أنّ المركب بقي حاملاً لاسم “أرواد”، ولم يحمل رمز ط، أي أنه لم يسجل في طرابلس، وهو ما يدفع للتساؤل عن كيفية إبحاره في وضع غير قانونيّ من ميناء طرابلس مروراً بشواطىء المنية والعريضة.
كما تحوم تساؤلات حول حرية نقل المراكب الصغيرة المهاجرين على دفعات لبلوغ “قارب الموت”، فضلاً عن عدم الاشتباه بعمل الشّبكة في نطاق البرّ، أقلّه خلال تجميع ونقل المهاجرين في الشاحنة، ما يفتح باباً لضرورة التقصي والتوسع في التحقيق حول إمكانات المهربين، وتغطية هؤلاء خلال إحداثهم الخروقات سواء في نطاق البرّ أو البحر.

وتأسيساً على ما تقدّم، تتنامى الحاجة الملحّة والعاجلة لاتّخاذ خطوات جديّة على المديين القريب والبعيد، في سبيل تجفيف منابع الهجرة غير النظاميّة من شواطىء لبنان الشماليّة، وذلك من خلال:
- المحاكمة السّريعة وإنزال العقوبات الجدية بحق المتورّطين في تنظيم رحلات “قوارب الموت” ومعاونيهم من مدنيّين وعسكريّين وأمنيّين، واستعادة الأموال المجنيّة من أهالي الضحايا والناجين.
- تفعيل نشاط الأجهزة واللجان المعنيّة في معرفة مصير المفقودين في رحلات قوارب الموت.
- تركيز أجهزة الرّقابة والرّصد قي نقاط الهجرة غير النّظاميّة المعروفة، وتفعيلها عموماً على طول الشاطىء اللّبناني.
- دراسة أوضاع أهالي الضحايا والنّاجين، ومساعدتهم في تأسيس مشاريع صغيرة، أو تشبيكهم بفرص عملٍ تضمن لهم الحدّ المعيشي الأدنى في ظلّ هذه الأزمة.
- تكثيف المبادرات والبرامج والمشاريع التي تستهدف الشرائح الأكثر حرماناً في عكّار وطرابلس ومجتمعات اللاجئين.
- – تحسين شروط العيش في المخيّمات الفلسطينيّة، وعدم نفيها عن دائرة اهتمام الدولة، من خلال ترميم البنى التحتيّة والفوقيّة للمخيّمات. كما يجب استكمال عمليّة إعادة إعمار المخيم التي شرعت بها الأونروا جراء تداعيات معارك 2007 بين الجيش اللبناني ومتطرّفين، دارت رحاها في مخيّم نهر البارد، ودمّرته، وتسببت بتهجير 27 ألفاً من أبنائه.
- التخفيف من سياسة العزل الاجتماعي الناتجة عن خطة أمنيّة منعت تلاقي مخيم نهر البارد بمحيطه، وذلك من خلال تعزيز الحضور الأمني داخل المخيّمات على النحو المتبع في خارجها.
- تعزيز المبادرات ومساحات التلاقي الدّامجة بين اللاجئين السوريين واللبنانيين والمجتمع اللبناني المضيف، ما يخفّف وطأة اللّجوء والوصم الاجتماعي.
- رفع الوعي والمساعدة على تخطي المخاوف المحيطة بتعليم وعمل النساء في المجتمعات القروية المحافظة ضمن عكّار، وكذلك الأمر في بعض أحياء طرابلس والأسر اللاجئة؛ تشكّل المرأة أكثر من نصف المجتمع، وانخراطها في سوق العمل يساهم في احتواء الأزمة المعيشيّة الّتي تسحق لبنانيين ولاجئين.
بعيدًا عن خطاب الإدانة الذي يراد منه تجهيل الفاعل، وتحميل الضحايا المسؤولية؛ تختصر ظاهرة قوارب الموت حالة اليأس التي وصلت إليها شريحة كبرى من اللبنانيين واللاجئين، المهمشين الذين يعيشون في غياب تام للحد الأدنى من مقومات الحياة، فضاقت عليهم الأرض ولم يعد لديهم وسيلة أخرى لتأسيس مستقبل أو حياة كريمة سوى هذا الهروب الخطر.
في المحصلة، لم يختر هؤلاء “الضحايا” أن يكونوا لاجئين ويركبوا قوارب الموت. وفي حال نجاتهم، سيعودون تاركين خلفهم أحبة ابتلعهم البحر، ويحملون مدى الحياة أوزاراً نفسية وصوراً محطمة عن أحلام أصبحت أثراً بعد عين، ويحاصرهم سؤال سيرميهم به كثيرين: “أكنتم مضطرين؟”، فيغدو لسان حال البعض: “سنعاود الكرّة. وهل بقي معنا شيئاً لنخسره؟”.
(أعدّ التقرير: جودي الأسمر، بشير مصطفى، باسل عبد العال وداني القاسم).