مقال جسور
سبعون عاماً من اللجوء من أجل بناء علاقات لبنانيّة – فلسطينيّة جديدة

* وزير سابق ومدير معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية حالياً.
قبل نكبة 1948، وجد اللبنانيون في فلسطين سوقاً للعمل في مختلف الميادين، بينما كان لبنان مصيفاً للفلسطينيين، وكان التزاوج في تلك الفترة مألوفاً، وبخاصة بين أهالي عكا وأهالي صيدا. بعد النكبة، لجأ إلى لبنان نحو 110 آلاف فلسطيني ورافقهم نحو 90 ألف لبناني كانوا يعيشون في فلسطين. وقُدّرت قيمة الأموال التي نقلها اللاجئون الفلسطينيّون إلى لبنان بنحو 15 مليار دولار بالقيمة الحالية، وحصل عدد كبير من الفلسطينيين المقتدرين مادياً، وغيرهم من ابناء الطبقة الوسطى، على الجنسية اللبنانية بعد اللجوء. واليوم، فإن نحو ثلث اللاجئين الفلسطينيين في لبنان لديهم علاقات مصاهرة مع العائلات اللبنانية، وهي علاقات واسعة وممتدة.
عاملت التشريعات اللبنانية الفلسطينيين بوصفهم اجانب، ثم صاروا “اجانب من بين الأجانب” حين استثنوا من الحق في الملكية، لدى تعديل قانون تملّك الأجانب سنة 2001 (القانون رقم 296). وخضع حقهم في العمل لقيود صارمة، بما في ذلك عدم استفادة الحائزين على اجازات العمل من خدمات الضمان الإجتماعي. وخضع التحاقهم بالجامعة اللبنانية والمدارس الحكومية لمبدأ الأفضلية الوطنية.
وبعد النزاعات المتداخلة بين فئات من اللبنانيين من جهة وبين بعضهم والتنظيمات الفلسطينية المسلحة من جهة ثانية، ورحيل المقاتلين الفلسطينيين بعد الإجتياح الإسرائيلي عام 1982 وما تلاه من مجازر وقع ضحيتها المدنيون. ورغم عودة بعض المقاتلين بأعداد محدودة ولفترة وجيزة، تناقصت اعداد الفلسطينيين المقيمين في لبنان وضعفت قدراتهم. وما استطاعوا الدفاع عن انفسهم حين تعرّضت المخيمات لحصار وعمليات عسكرية موجعة، طالت المدنيين وزادت من حدّة معاناتهم فهاجر بعضهم وانكفأ البعض الآخر. ولأسباب شتى، ومنها ما يتصل بتعاقب النزاعات في لبنان من غير ان يكون الفلسطينيون طرفاً فيها، تراجعت حدّة المشاعر العدائيّة بين الفلسطينيين وفئات من اللبنانيين.
وبدأت تحوّل السياسة الرسمية اللبنانية إزاء الفلسطينيين عام 2005، حين ألفت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، لجنة خاصة، بإشراف رئاسة مجلس الوزراء اللبناني، دعيت “لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني”، مهمتها العمل على تحسين العلاقات بين اللبنانيين، وتعزيز الحوار بينهم، والسعي إلى معالجة المشكلات القائمة على نحو يوفّق بين مصالح الطرفين ويتفهّم مخاوفهما. وأسفرت الاتصالات بين القيادة الفلسطينية والمسؤولين اللبنانيين عن إعادة افتتاح مكتب ممثليّة منظمة التحرير في لبنان، ثم تمّ بعد سجال داخلي لبناني، الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين واعتماد الممثليّة سفارة. وفي كانون الثاني 2008، اثناء احتفال بمناسبة الذكرى الثالثة والأربعين لانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، قدّم ممثّل منظمة التحرير في لبنان عباس زكي وثيقة “إعلان فلسطين في لبنان” التي تضمّنت مراجعة جذرية وجريئة لتجربة المقاومة الفلسطينية في لبنان، وجاء فيها “فإننا من جانبنا نبادر إلى الاعتذار عن أي ضرر ألحقناه بلبنان العزيز، بوعي أو من غير وعي. وهذا الاعتذار غير مشروط باعتذار مقابل”.
واثناء المواجهات بين الجيش اللبناني وعصابة “فتح الإسلام” في مخيم نهر البارد عام 2007، والذي أدى إلى تدميره وتشريد سكانه، تعزّز التعاون اللبناني – الفلسطيني. وشكّلت الفصائل الفلسطينية “قيادة سياسية موحدة”، و”قيادة أمنية عليا”، ولجاناً أمنية في المخيمات، وضبطت الوضع إلى حد كبير بالتنسيق مع الجيش اللبناني والأمن العام ومؤسسات حكومية أخرى. وصدر في منتصف عام 2005 قرار من وزارة العمل يسمح للفلسطينيين بالعمل في ما يقارب الخمسين مهنة ووظيفة، مستثنياً المهن الحرّة، كالطب والهندسة والصيدلة والمحاماة والصحافة وسواها. وفي آب، أصدر البرلمان اللبناني القانون رقم 129 الذي عدّل المادة (59) من قانون العمل اللبناني، بما يسمح بإصدار تصاريح عمل “مجّانية” للفلسطينيين، كما أصدر القانون رقم 128 الذي عدّل المادة (9) من قانون الضمان الاجتماعي، ليعطي العامل الفلسطيني المنتسب إلى صندوق الضمان الاستفادة من صندوق تعويضات نهاية الخدمة، بعدما كان العامل الفلسطيني يدفع مساهمته في الصندوق من دون أن يكون له حق الاستفادة من تعويضاته.
وفي كانون الثاني 2015، تألفت “مجموعة العمل اللبنانية بشأن قضايا اللاجئين الفلسطينيين في لبنان”، التي شملت القوى السياسية اللبنانية على اختلاف مشاربها وانتماءاتها، وسعت إلى التوفيق بين هدفين: معالجة هواجس اللبنانيين، وخصوصاً هاجس التوطين الذي يعرّض التوازن الطائفي في لبنان للاختلال، ومعالجة الأوضاع المعيشية الصعبة للفلسطينيين. ونجحت “مجموعة العمل”هذه في إيجاد مساحة تفاهم مشتركة بين اللبنانيين تجسّدت في وثيقة عبّرت للمرة الأولى عن تفاهم لبناني عميق حول كيفية التعامل مع الفلسطينيين على نحو يحترم حقهم الأساسي في حياة كريمة، إلى حين عودتهم إلى وطنهم.
لقد أظهرت النتائج الرسمية لـ”التعداد العام للسكان والمساكن في المخيمات والتجمعات الفلسطينية في لبنان” الذي أعلن في السرايا الكبيرة، مقر رئاسة الحكومة اللبنانية، أن عدد هؤلاء السكان في لبنان لا يتجاوز 174422 لاجئاً، يعيشون في 12 مخيماً و156 تجمّعاً فلسطينياً في المحافظات اللبنانية، وهو ما يفرض على الأطراف اللبنانية إعادة النظر في كثير من التصورات والمواقف الرائجة في العلاقة مع اللاجئين الفلسطينيين، الأمر الذي أكده رئيس لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني الدكتور حسن منيمنة حين دعا إلى النظر في إمكان كسر الكثير من المحرّمات ومواصلة الحوار الحقيقي والمسؤول.
ومن شأن هذا الحوار أن يعيد بناء العلاقات اللبنانية – الفلسطينية على قواعد بات الإتفاق عليها في متناولنا. فلا خلاف في العمق حول رفض التوطين وتأكيد الحق، مهما هوّل البعض به او هدّد بمخاطره، مستثمراً ذلك في السياسة المحلية. ولم تعد قضية السيادة الوطنية مدعاة توجّس لبناني حيال الفلسطينيين كما كانت في الماضي، لا سيما وان المسؤولين الفلسطينيين على كل المستويات يعلنون حرصهم على سيادة لبنان ويعملون بوحي هذا الحرص. غير ان اعادة البناء تتطلب أيضاً المزيد من العمل المشترك لتنقية الذاكرة، على نحو يراكم المحاولات السابقة الكثيرة في الحوارات والكتابات والأعمال الفنية. كما يقتضي التعاون العملي في احقاق الحقوق الإنسانية والمدنية للاجئين.
لقد أقرّت “مجموعة العمل اللبنانية بشأن قضايا اللاجئين الفلسطينيين في لبنان”، وثيقة “رؤية لبنانية موحدة لقضايا اللجوء الفلسطيني في لبنان” وقدّمت تعريفاً للتوطين، يبدد بعض الغشاوة التي تحيط به والغموض المتعمّد الذي يلفّه. كما ان الوثيقة المذكورة تفتح الباب امام رفع العوائق من امام حصول اللاجئين الفلسطينيين على حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك حق العمل والحماية الاجتماعية وتملّك المسكن، على أن ترعاها تشريعات وسياسات تحفظ مصلحة لبنان العليا ولا تميّز بين الفلسطينيين وسواهم من غير اللبنانيين.
لعل طريقاً جديدة شقّت أمامنا.