مقال جسور
سطوح مخيم نهر البارد: أن تعرف معنى الحرية

ساندي الحايك
صحافية لبنانية
هل بحثت يوماً عن مكانٍ عندما يضيق الكون بك؟ مكان كالملجأ تهرب إليه وفيه ومنه بعيداً عن ضوضاء المدينة وصخب الحياة المتعب وسقطاتها القاسية. تندرُ احتمالات العثور على إجابة مُرضية غالباً، لكن بالنسبة للبعض يكفي أن تُمعن النظر حولك. قد يكون الجواب نصبَ عينيك. كحال أبناء اللاجئين الفلسطينيين في مخيم نهر البارد – شمالي لبنان، الذين يرددون قولاً واحداً: “السطوح”.. نعم “السطوح”!
تستضيف أسطح مخيم نهر البارد أصحابها في أي وقت ولأي غرض. هنا لا يتمتع الناس بترف البحث عن إجابات، فالكون بفضائه الفضفاض محرّمٌ عليهم. حدود الحياة متصلةٌ بحدود المخيم، فالخروج والدخول خاضعان لشروط أمنية صارمة. منذ زمن تقطعت أوصال العلاقة بين هؤلاء والأرض المحيطة بهم، فالتفتوا بأنظارهم نحو السماء، كما يقول محمد وهو يلهو بانتشال قداحة من جيب بنطاله. يسير إلى جانبي نافثاً دخان سيجارته بعَتب، كمن ينفخ همومه بوجه العالم، مردفاً بعدما أذن لنا العسكري على حاجز الجيش اللبناني عند تخوم المخيم بالدخول: “يجب أن تعرفي أن الحياة في المخيم لا تُقاس أبداً بالحياة خارجه. أوجه التناقض أكبر بكثير من أوجه الشبه. هنا الحياة هي نصف حياة أو أقل”.
المخيم الجديد
ليس لمخيم نهر البارد شكل المخيمات التقليدية. رغم الاكتظاظ السكاني فيه، إلا أن التنظيم المدني المُتبّع وحداثة المباني تجعله أقرب إلى مُجمع سكني كبير. مباني مطلية بالأصفر والأخضر والأزرق مرصوفة جنباً إلى جنب. لا يزيد أعلاها عن ثلاث طبقات وتستقبل ما اتسعت من عائلات. وليس كل هذا التحوّل العمراني إلا نتيجة لعملية إعادة الإعمار التي شهدها المخيم عقب انتهاء المواجهات مع تنظيم “فتح الإسلام” عام 2007.
اتسعت الشوارع في المخيم، فبات دخول السيارات والآليات وحتى ركنها أمراً يسيراً. “هذا كله نتيجة ما بعد إعادة الإعمار”، يردف محمد. ويضيف: “لكن المخيم خسر السمات والخصائص التي كانت تجمعه مع مخيمات لبنان الأخرى، كمخيم البداوي والمية ومية وغيرها”. شوارع المخيم باتت أكثر اتساعاً في حين ضاقت الشقق والبيوت. فتاريخياً تميّزت منازل المخيم بكونها “شرحة” وتتراوح مساحتها بين 90 و95 متراً مربعاً، ولكن عقب إعادة الإعمار تقلّصت مساحة الشقة إلى 45 متراً كحدٍ أقصى، فيما تمت الإستفادة من المساحة المتبقية في توسعة الشوارع العامة والفرعية. “أزمة السكن هذه ضاعفت من حنق قاطني المخيم” بحسب محمد. “تقطن في هذه الأمتار القليلة عائلتان أو ثلاث على الأقل، فضلاً عن أن عدداً كبيراً من الناس يدفع بدل إيجار للبيوت. فكل من لم يُسجل لدى منظمة “الأونروا” بأنه يملك منزلاً باسمه قبل هدم المخيم عقب حرب 2007، تحوّل إلى مستأجر”. يُثني أبو طلال على كلام محمد. يُعدل الأخير جلسته أمام الحاضرين في منزله قائلاً: “عام 1949 أُنشىء مخيم نهر البارد من قبل وكالة الصليب الأحمر الدولي ومؤسسة «الكويكر» الأميركية ليستقبل 5000 نسمة. وأصبح بعد ستين عاماً مُرتكزاً اقتصادياً ومُنافساً تجارياً كبيراً في شمال لبنان. لكن العدد السكاني تزايد بكثافة إلى أن بات المخيم يضمّ اليوم حوالي 30,000 نسمة”، مضيفاً: “أعتقد أن الناس في المخيم كانوا أكثر التصاقاً وقرباً من بعضهم البعض قبل عام 2007، والفضل يعود لتركيبة المخيم. ومثلما تباعدت البيوت عن بعضها البعض في المخيم الجديد، كذلك تباعدت النفوس”.

حجرة التأمل الحرّ
في منزل أبو طلال تقطن عائلته المؤلفة من زوجته وابنته وهي من ذوي الإعاقة، ويسكن معهم ابنه وزوجته وطفلته، وابنته وزوجها وطفلاها. المكان يضيق بهم لدرجة أنهم في أحيان كثيرة يصطدمون ببعضهم البعض. تجتمع العائلة في الصالون غالباً، حيث التلفاز وطاولة الطعام، إلا أن أبو طلال نادراً ما يشاركهم الجلسة. “لي حجرتي الخاصة. صحيح أن البيت صغير، بس الواحد بيدبر حاله”. يردف ممازحاً ثم يسأل: “هل ترغبين في رؤيتها؟”. بمجرد الإيماء بالإيجاب ينهض أبو طلال ليسير بنا نحو الدرج المُزيّن ببلاط بني. نصعد لنتجاوز طبقتين ونصل إلى السطح. “هنا المكان الأحب إلى قلبي. هنا أهرب من ضيق مساحة البيت، فأشعر أن العالم رحب جداً”.
حوّل أبو طلال السطح إلى حجرة للتأمل، للهرب، للتحرّر، للإنعتاق من سجن اللجوء، للنظر إلى السماء حيث لا حدود ولا قيد. بنى مغسلة صغيرة في الزاوية اليمنى للسطح. “أريد ألا أحتاج النزول إلى المنزل. هنا أعد قهوتي ونرجيلتي في المساء. أجلس وحيداً أراقب السماء، حتى أنني اشتريت ثلاثة كراسي بلاستيكية فقط، علماً أن عدد أفراد البيت أكثر من ذلك، ولكنني لا أريد أن يصعد الجميع دفعة واحدة فأشعر للحظة أن حجرتي المفتوحة نحو الأفق تضيق بي”. في وسط المكان نصب مرجوحة للصغار. “قد تساعدهم على اصطياد الفرح قبل النوم” يقول.
يزيّن أبو طلال أحرف السطح بمختلف أنواع الزرع. يمرّر بيديه المياه لتُطفئ عطش شتلات الزعتر البري والنعناع والبندورة البلدية والمردكوش والحبق والأكادينيا والليمون ثم يتوقف برهة. يعيد السطل إلى المغسلة ليملأه من جديد. يحمله ويتوقف به أمام شتلة زيتون صغيرة. يمرر المياه فوق تربتها بحنان غير معهود، كأنه يمررها فوق جسد رضيع يستحم لأول مرة، ويردد: “عاليادي عاليـادي بدي أغني لبـلادي، قعدة تحت الزيتوني بْتِسوى المحيط الهادي. زيتونتنـا الجويـة شو حلوة وشـلبـية، من الوادي تشرب مّيه بتشرب مّيه من الوادي”. يُدرك أبو طلال أن صوته أعاد نثر الحنين في المكان رغم الصمت. فالمخيم الذي يمتاز اليوم بمستوى جيد من الحداثة لا يزال كئيباً. يُخيم الحزن عليه فارضاً سطوته. كباره وصغاره يسيرون بوجوه شاحبة، وحين تسأل يجيب أبو طلال: “هي المصايب مش سهلة. هلق راقبي اللبنانيين عن كثب، بتلاقيهم فرحانين متل ما كانوا زمان؟”. يترك سؤاله يتأرجح ثم يردد: “بتعرفي شو بنسمي شجرة الزيتون بفلسطين؟ هيدي شجرة النور”. وقبل أن يكمل كلامه يقاطعه صوت امرأته وهي تسألنا الهبوط إلى المنزل لشرب القهوة، فيقول: “من الأفضل أن تصعد أم طلال بالقهوة إلى هنا ولكنها مسكينة تُعاني من ضعف في عضلات القلب، وأنا لا أملك هنا من الفناجين ما يكفينا، لذلك سنضطر إلى النزول”، ليضيف ممازحاً: “صراحة قلتلها لأم طلال إذا بدها تضل على هالحالي بدي أشوف غيرها بنت تقدر تنزل وتطلع على السطح، مش معقولة ضل قاعد لحالي عمّ عدّ النجوم فوق”.
من سطح أو طلال أو حجرته كما يحلو له أن يسميها، يظهر سطح أم رشاد. تتدلى حبال الغسيل حاملةً ما فاض من ثياب وألوان. يعج السطح ضيق المساحة بالحياة. ألعاب للأطفال. دراجة هوائية. سُلم عالي. بعض الأغراض المبعثرة وغالونات بلاستيكية فيها أنواع متعددة من الزرع. أما الأكثر لفتاً للإنتباه فهو خيمة القصب المبنية بحرفية عالية. فكما أبو طلال، حوّل الصبية الثلاثة، أبناء أم رشاد، سطحهم إلى حجرة صيفية هرباً من الحرّ. يحكي أبو طلال أنه في الصيف يصعب على المرء أن ينام من صراخهم وهم يتنافسون في لعب ورق الشدة، أو عندما يقررون رفع صوت الموسيقى على هواتفهم المحمولة والرقص. “رغم الازعاج الذي يسببوه لنا لا أوجه لهم أي نداء. أتركهم يلهون. فمن غير المنطقي أن أحاسبهم على لحظات فرح نادرة يخلقونها لأنفسهم”.

السطح يضيق بالصغار
من منزل أبو طلال مروراً بشارعٍ فرعي قبل الوصول إلى الطريق العام يستوقفنا صوت صغار يتناوبون على تحطيم عبوات بلاستيكية. علي ووئام وأحمد ونور يجولون المخيم يومياً بحثاً عن بقايا البلاستيك والحديد. يجمعونه في أكياس كبيرة، ثم يحضرون “الغلّة” إلى أمام منزل علي ويباشرون بتحطيمها استعداداً لبيعها. يتراوح المبلغ الذي يجنيه الصغار من هذه العملية المضنية بين 150 و200 ألف ليرة لبنانية ليحصل كل واحد على 50 ألفاً. يُفاخر كل منهم بما سيفعل بهذا المبلغ “الكبير”. فيردد علي بأنه سيضعه في “الإجيه” لأنه يريد أن يشتري كومبيوتر يوماً ما. في حين يشدد مؤمن أنه يريد أن يشتري “غللاً” ليلعبوا بها على السطح بدل تلك التي انجرفت في “بالوعة المياه”.
السطح أيضاً ملعب الصغار. فعندما يضيق الأهل ذرعاً بصراخهم واحتدام المشاكل بينهم في البيوت أو على الطرق الفرعية، لا مجال أمامهم إلا بارتياد السطوح. يحكي الصغار بخجل عن ألعابهم على السطح. يقول علي: “ما فينا نلعب على السطح إلا بالغلل. بحب ألعب فوتبول بس السطح كتير صغير مش متل الطريق. بس لما أمي بتعيّط علي بطلع على السطح”. ليرد مؤمن: “هو أحلى الشي على السطح إنو مافي سيارات فينا نلعب غميضة”.
السطح أيضاً متنفساً للعشاق
أثناء حديثنا مع الصغار يصادف مرور أبو خليل. رجل ستيني عائداً من ورشة النجارة الخاصة به. يعلّق على ما قاله الصغار مردفاً: “مين فينا ما عندو علاقة مع السطح. العيشة بالمخيم بتخليكي تتمسكي بحب التفاصيل”. ويسرد قصة ابنه يوسف المتزوج منذ حوالي سنتين: “في أحد الأيام ترك يوسف عمله باكراً، هو حلاق رجالي يعمل داخل المخيم، وقال لي أن لديه موضوعاً بالغ الأهمية. تهيأت لأسمع ما لديه وإذا به يطلب مني أن أمنع إخوته من الصعود إلى سطح المنزل مساء. استغربت وسألته عن السبب، ليتبيّن أنه يعد مفاجأة لزوجته. قرر أن يحتفل بعيد ميلادها مع أصدقائهم على السطح!”. أبو خليل كان أول من أولى اهتماماً بالسطح بين أفراد عائلته، لكنه عندما لمس حب أبنائه الشباب لجلسات السطح، خصوصاً في أيام الصيف الحار، تخلى عن هذا المتنفس فاتحاً المجال أمامهم لقضاء بعض الوقت أحراراً. يقول: “السطح متل البيت مش رح بيساعنا كلنا. بس الأولاد أولى… لازم يعيشوا أيامهم مبسوطين، نحن أيامنا راحت مع مخيم زمان وأسطحنا القديمة”.
السطوح المتنفس الباقي لأبناء المخيمات في عزلتهم بعيدة الأمد. هي المساحة الحرّة التي من خلالها يمكن لهم التواصل مع العالم من دون حركة، بأعينهم وألسنتهم، فصدى الأصوات لا يمكن أن يُكتم، كما أن للعيون لغة كونية لا تستعصي على أحد.