مقال جسور

“سُـفرة” فلسطينيّة، أكثر من نكهة.. إنها هـويّة

“سُـفرة” فلسطينيّة، أكثر من نكهة.. إنها هـويّة

ساندي الحايك

صحافيّة لبنانية

ما هو الوطن؟ أردفت منال في خضم الجدال الذي ارتفعت حدّته بين النسوة الخمس. سؤال تردد صداه في المكان طويلاً. حملهن على السكوت، وكأنها رمت لتوّها قنبلة صوتية دفعت الحاضرات إلى التراجع خطوات معدودات إلى الوراء. إلى الماضي. ساعات، أيام، أو ربما سنوات من البحث عن شيء اسمه الوطن.. لكن صوتاً يعلو فجأة: “إنه المطبخ”!

كانت تلك وهيبة. شابة طيّبة القسمات، قصيرة القامة، قليلة الكلام، أصغر العاملات مع مطبخ “سُفرة” في مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين. تضحك معظم الوقت من دون سببٍ واضح، حتى عندما قذفت بتلك الكلمات التي أربكت الجميع أطلقت ضحكة بعدها مبددةً هول الصمت. اختلف فلاسفة وشعراء العالم على تعريف الوطن، لتختصره هي بما تسنى لها أن تعرفه عنه. إنه ببساطة ما ذاقت وما طهت. أيّدتها منال، نعم، الوطن حاضر هنا في المطبخ. نحن من نستحضره مع كلّ رشة حنين تضاف فوق أطباقنا. فعندما يصعب عليك أن تنقل أرضك إلى حيث تُقيم قسرياً، ويتعذر عليك أن تصنع ملابسك، ويستحيل أن تحتضن بساتينك من الليمون والزيتون والزعتر بين يديك، تلجأ إلى تجسيد هويتك الوطنية في ما ورثت من طعام ومأكولات، فتعجن الوطن ليتجلى صورة شهية في طبق رائحته تعبق في الروح لتُحييها.  

تجتمع السيدات الطاهيات العاملات في “كافيتريا سُفرة” حول طاولة بلاستيكية صغيرة. تحاول كل واحدة أن تُعدل جلستها بطريقة تريحها، بعد الوقوف لساعات طويلة في المطبخ. إنه المكان الأحب إليهن رغم التعب. هنا يطلقن العنان لإبداعهن، فتضيف كل واحدة منهن قطعة من روحها مع كل طبق تصنعه. يبدأ نهارهن بعد استلام طلبات الزبائن. تُكتب أسامي المأكولات التي يجب إعدادها خلال اليوم على لوح خشبي، ثم تقسّم السيدات العمل عليهن، فتقوم كل واحدة بصنع طبق من الأطباق الواردة. تتحوّلن فجأة إلى خلية نحل. ولا يخلو نهارهن في المطبخ من ثرثرات وحوارات في شؤون الحياة والعائلة والأزواج ومشاكل المخيم ومنه إلى مشاكل فلسطين. هن على هذا الحال منذ افتتاح “كافيتريا سُفرة” في العام 2021، رغم أن فكرتها تعود لأربع سنوات قبل الافتتاح، تديرها جمعية البرامج النسائية في المخيم وبتمويل من منظمة مطابخ بلا حدود العالمية. تعمل النساء على طهي المأكولات الفلسطينية، وأي نوع آخر من الطعام، للمحافظة على التراث الفلسطيني وتاريخه، انطلاقاً من قناعة مشتركة أن العلاقة مع الوطن من خلال الطعام هي أكثر علاقة ممتدة على مرّ العصور.

تعلو حائط الكافيتريا صور أشهى المأكولات الفلسطينية من “المسخّن” و”المقلوبة” و”الكبة قراص” و”المحاشي” والفلافل. وتتوسط المكان كراسي وطاولات خشبية غُطي وجهها بشراشف ملوّنة. أما رائحة الطهي الشهية فهي أكثر ما يأسر الأنفاس. تعمل النساء من الصباح الباكر ولا يغادرن قبل السادسة مساء. لا يخفت حماسهن أثناء الحديث عن حياتهن في المطبخ، بل تتسابق كل منهن في التعريف بالمأكولات الأحب إلى قلبها وطريقة تحضيرها. تتحدث أميرة عن طبق المفتول المعد من طحين القمح وزيت الزيتون والدجاج البلدي. تقاطعها أم يامن لتتحدث بشغف عن المقلوبة التي تتكون من طبقات من اللحم والأرز والخضروات المقلية مثل القرنبيط والباذنجان والبطاطا والجزر. تطهى في قدر كبير ثم تقلب وتزين بالمكسرات المقلية أو الأعشاب الطازجة. “هذه أكلات فلسطينية إحّ” تردف، لتصرخ منال: “ليش المجدرة والحمص والكبة مش فلسطينية إحّ!”. تتابع رغم أن كل الحاضرات تحوّلن بأنظارهن نحوي، قائلة: “طول عمرنا مندق الكبة بالأجران بفلسطين ومن عنّا أخدوها اللبنانية”. تحاول أم يامن أن تخفف من حدّة الحديث: “كل بلاد الشام بيعملوا كبة. في أكلات كتير مشتركة بينا”. لتشدد منال بإصرار المصمم على انتزاع حقٍ ما: “بس هي بالأساس فلسطينية، حتى التبولة كمان”. لم يمرّ ما أردفت به بسلام، إذ علت الصرخات المعترضة: “كله إلا التبولة! هيدي لبنانية أباً عن جد” تردف أم محمد: “أنا نصي لبناني يا منال بعرف شو عم بقول”. تختلط أصواتهن فتتفقن على رأي وتختلفن على آخر، لكن الأكيد أن أثر تداخل الثقافات بين المطبخ اللبناني والمطبخ الفلسطيني بات عميقاً، وكأن هناك هوية مشتركة قيد التأسيس بين الشعبين ولو من خلال المطبخ وما يحفل به من عادات وتقاليد، فالمسخن مثلاً بات من الأطباق الحاضرة على سُفرة العديد من العائلات والمطاعم اللبنانية، وأشهرها مطعم “أم شريف” في الحمراء.

ما إن يهدأ النقاش حتى يعود للاشتعال مجدداً مع الحديث عن أصل المجدرة. تصرّ منال على أنها أكلة فلسطينية، لكن أم يامن وأم محمد يخالفنها الرأي. “طريقة اللبنانية بعمل المجدرة غير إحنا. هني بيقولوا عليها مجدرة مصفاية”. تحاول أميرة لملمة أطراف الحديث فتكشف عن كيفية صنع الرمانية والكمونية وهما طبقان من قلب فلسطين ولا تعرف عنهما العائلات اللبنانية الكثير. تقول: “الكمونية تصنع عبر وضع زيت الزيتون في قدر ورفعه على النار حتى يسخن، ثم تُضاف إليه اللحم المفرومة والثوم والبصل وبالبهارات والملح، ثم معجون البندورة والبندورة والفلفل الحار. بعدها يوضع الخليط في طبق التقديم، ويُزيّن بالبقدونس المفروم”. ترشف القليل من قهوتها وتتابع: “أما الرمانية فتبدأ بنقع العدس بالماء مدة كافية، ثم يوضع على النار مع 4 أكواب من الماء حتى يغلي، ثم يُضاف إليه الباذنجان بعد تقطيعه إلى مكعبات مع رشة ملح وكمون. في وعاء آخر نخلط زيت الزيتون والثوم والفلفل المهروس حتى يتحوّل لونه أشقراً، ثم نضيفه إلى الخليط الأساسي، وننتهي بتزيين الطبق بحيات الرمّان”. ما كادت تنتهي من الوصف حتى شعر الجميع بالجوع! ضحكت ثم أردفت ممازحة: “أما المحاشي فمش معروفة لمين”.

رغم عملهن لساعات طويلة في الكافيتريا تعود النسوة للطهي في منازلهن أيضاً. تؤكد منال أن الأكلات الفلسطينية حاضرة على موائدنا دائماً. تقول: “أحاول أن أبعد أطفالي قدر المستطاع عن المأكولات الجاهزة… البرغر والكريسبي وسواها، أريدهم أن يعرفوا عن بلدهم كل شيء كأنهم زاروه ولو حتى في أحلامهم، أن يحتفظوا برائحته في أنوفهم وطعمه في أفواههم. هكذا عرفنا فلسطين نحن، وهكذا ستبقى حيّة في وجدان وثقافة الأجيال القادمة”. كأن الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي حلَّت بالفلسطينيين جعلت البعض يعتقد أن انهيار الثقافة والتراث شيء حتمي محكوم بالزمن، وكأن الاندماج الفلسطيني في الشتات يعني الذوبان، لكن الواقع يخالف التوقعات، فالتراث الفلسطيني نابض رغم المحاربة والقيود، حيّ رغم محاولات السرقة والادعاء والاعتداء والتشويه. من يتصوّر أن للكبة والتبولة والفلافل دور في تعريف الهويات الوطنية أو المناطقية أو حتى الطائفية أحياناً، ولكنها كذلك. فلبنان، بلد التبولة والحمص. وفلسطين بلد الزعتر والزيتون. ومصر بلد الفول والطعمية. وسوريا بلد المحاشي والكبب. والأردن بلد المناسف.

لا تنفصل ثقافات الشعوب في الطعام عن ثقافة المجتمع عامة، فكل مجتمع يحاول تأصيل هويته بانفراده بثقافة طعامه. كما لا يمكن إنكار علاقة الطعام بالمتغيرات التاريخية التي تطرأ في كل بلد. من هنا باتت هناك حاجة ماسة لرفع الوعي وإبراز أهمية التراث المحلي بكل عناصره، مهما كانت بسيطة، وكذلك ضرورة حفظه من أي اندثار محتمل. هذا تحديداً ما تقوم به تلك النسوة، إن أدركن ذلك أم لا. هن لا يحفظن في تلك الأواني والأقدار مجرّد أطعمة وأطباق، بل هويتهن الوطنية المهددة بالسلب، تاريخهن وتعلقهن الدائم بأرض لم يذقن ولو مرّة، حبّة واحدة من ترابها، لكنهن لم يفقدن الأمل بتحقيق ذلك. بالنسبة لهن فلسطين في الذاكرة كتلك الأطباق على الطاولة، حاضرة ومتداولة وحيّة.