مقال جسور

شاتيلا اختصاراً للتراجيديا الفلسطينية المستمرة

شاتيلا اختصاراً للتراجيديا الفلسطينية المستمرة

زهـير هـواري*

يكاد مخيم شاتيلا يختصر التراجيديا الفلسطينية. سواه يحمل بصمات التغريبة وما رافقها من مآسٍ ومرارات. لكنه بينها جميعاً يحمل على كتفيه مصيره الملحمي الدامي. لكن مصيره هذا لا ينتهي بموته أبداً، هو بألف روح وروح، لذا يحمل فرادة تاريخه وقيامته دوماً، باعتباره تعبيراً عن قَدَر وقُدرة هذا الشعب المكافح.

عندما نشأ المخيم على أرض خلاء خارج المدينة وإمتدادتها الحديثة، كان المكان مجرد مساحات من الرمل المنبسط، قرب مطار بيروت القديم. جاءوا إليه قسراً من قرى وبلدات فلسطين الشمالية والساحلية خصوصاً. وحضرت معهم عاداتهم وتقاليدهم في تراتبية العائلات، وموقع الرجل والمرأة والأبناء فيها. وجاءوا بطبخاتهم دون الطناجر، ومآكلهم دون الحبوب والخضار، وحكاياتهم التي حملها الأجداد والجدات في صرر الثياب، مع مفاتيح بيوتهم الصدئة. كان المكان الذي هو قريب إلى حد ما، ليس بعيداً عن مرفئها الصاخب، بعد ما انتقلت إليه التجارات البحرية من المرافئ الفلسطينية. ووجدوا أعمالاً لهم في التفريغ والتحميل. وعملوا في كل ما توافر لهم من أشغال. وحصلوا على أجور أطعموا من ليراتها القليلة أولادهم وأرسلوهم إلى المدارس كل صباح. ولأن المخيم على حافة المدينة، منها وليس منها، ينتمي إليها، ومسلوخ عن اجتماعها، أفاد من فوضى الحياة السياسية والأمنية في البلاد، وانتقل من خيام القماش البني، إلى جدران الباطون وسطوح الزنكو اللامعة. وفي فوضى لاحقة تقدم نحو بناء السطوح الأسمنتية. وبات الأطفال النائمون لا يصحون على قرقعة الرعد وحبات المطر على المعدن. وكبروا وكبرت معهم أحلامهم بالعودة، التي كلما تقدم بهم العمر، تأخرت رحلة الرجوع إلى بلادهم، حيث كانوا يظنون كما روى لهم أجدادهم أن بيوتهم وبياراتهم وحواكيرهم ما تزال تنتظرهم على أحر من الجمر. ولأنهم حملوا أحلامهم على محمل الجد فقد نفضوا عن أجسادهم قيود القمع والكبت الذاتي والموضوعي. وكان كل من تسوِّل له نفسه مجرد التفكير بالتمرد يمرَّغ رأسه بالتراب، ويجبر على تثبيت حضوره صبح مساء في المخافر كي لا يعكر صفو الأمن. ثم جاءت الحرب الأهلية بتفرعاتها الكثيرة فتحولت البيوت إلى طوابق أعلى عن ذي قبل. والخارج القريب الشقيق والبعيد أيضاً. وفقدوا سندهم وحاميهم وشبابهم. وكان ما كان، ودفعوا من بين كل الذين نزفوا الأضعاف مضاعفة. سدَّدوا أصل الدين وفوائد المرابين الكُثر. سقطوا مضرجين بجراح البلطات والسكاكين والسلاح الأبيض فضلاً عن الرصاص، وسط ليل حالك لإخفاء معالم المقتلة. قتلى من النساء والأطفال والشيوخ مكدسين في حالة فوضوية في الأزقة المتعرجة وأسراب من الذباب تحوم فوقهم. المناظر مرعبة وكأنها مقاطع من غرنيكا بيكاسو، بينما رائحة الدم تملأ فضاء المكان. وأذهلت الصور ضمير العالم ورأيه العام الذي استيقظ على هول الأخبار تنقلها وكالات الأنباء دونما انقطاع. وعرف أهالي شاتيلا أن الموتى يموتون، وأن الباقين وإن سحقتهم ذاكرة الغائبين، لا بد لهم من الوقوف على أقدامهم منتصبي القامات كأشجار سرو عتيقة. وارتضوا بالباقين منهم على قيد الوجود لرواية التفاصيل وحفظها أن تندثر. لكن المجازر لا تخلف سوى المجازر. وهكذا كان على الأهالي أن يناضلوا من أجل بقائهم ثانية. يدفعون ثمن قطرة الماء شلال دم. وثمن رغيف الخبز جراحاً راعفة، وكلفة علاج كل جريح ومصاب حياة طبيب أو ممرض ومسعف.

لكن الحياة تدور، وشاتيلا اليوم كما كل المخيمات أرض جوع وعطش وصمود ومخدرات وهذيان وفوضى أهلية. بعضها مقيم، وبعضها الآخر حمله معه وافدون من ديار الله الواسعة كأصحاب مهن هامشية للإقامة بأرخص الأكلاف الممكنة. تتغير جنسيات أبنائه ولا تتغير هويته. فما زال هو المخيم القائم على قطعة أرض يملكها أحفاد شاتيلا الجد من المشتغلين بالتجارة مع فلسطين ومصر. واسمهم معروف في أسواق ومانيفاتورات وسط البلد التجاري، أو المدينة كما يطلق عليها عتاق أبنائها. لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن صبرا المجاور ليس مخيماً، ويصح وصفه على حد تعبير تعداد السكان والمساكن الذي أشرفت عليه لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني مجرد تجمع. أضيف إلى مخيم رسمي، ووضع اسمه مع رصيفه على منعطف الألم النازف. فبات المخيمان يحملان اسماً واحداً شاتيلا وصبرا وصبرا وشاتيلا… ما زال المخيمان فقيران، فالفقراء يزدادون عدداً، ولكنهم يتضاعفون فقراً. لذلك يناضلون كما فعلوا من أجل توفير الرغيف وحبة الدواء والكهرباء وغيرها من ضروريات العيش الكريم، والبقاء على قيد الحياة بمساعدة الاونروا والمنظمات الدولية، وقبل كل هؤلاء بعرق كدحهم.

شاتيلا يختصر السردية الفلسطينية بكل ما تحمله من ذاكرة ضحايا وجرحى وإعاقات وأحلام مكسورة. وهي سردية تطعن في الصميم بالسردية الاسرائيلية المزَّيفة التي نشأت منذ وعد بلفور وتغذت من الحروب.. لكنها متصاعدة تهجيراً وتهويداً واستيطاناً. بينما إقامات الفلسطينيين متمادية تحت الاحتلال أو في مخيمات التشريد. لن تظل السردية الصهيونية مسموعة وعالية الضجيج، وسيكتب المغلوبون سرديتهم هم على جدران منازلهم وصدورهم وحكايا كبارهم وصغارهم. ومعه يصبح شاتيلا أثراً بعد عين تذرف من دموع الفرح، أكثر مما ذرفت من دماء ودموع نحو مجاري ينابيع الصراع.

* صحافي وباحث لبناني