مقال جسور

شباب إنتفاضة 17 تشرين: فجأة صرنا جميعنا في مرآتنا قادة

شباب إنتفاضة 17 تشرين: فجأة صرنا جميعنا في مرآتنا قادة

* باحثة حقوقية

“أنا قائد/ة الثورة”، عبارة ألصقت على جدران بيروت. فجأة صرنا جميعنا في مرآتنا قادة. هذه اللفتة الفنيّة، جاءت لترد على المذمّة التي لبستها انتفاضة 17 تشرين كونها بلا قيادة. الإنتفاضة التي هزّت عرش السلطة الحاكمة لشهور، حملت شعاراً طابعه إستراتيجي: “لا قيادة، لا تفاوض”. لكنه لم ينطوِ فعلياً على استراتيجيّة، حيث لم يحدّد موعد اللحظة التي ستنتج فيها قيادة لتغيير المعادلة. 

لقد وصل رفض القيادة إلى حدّ العداء بين رفاق الأمس، بسبب رغبة كل طرف بتولّي القيادة أو تجرؤه على الحديث “بإسم الشارع”. وشهدت أيام الإنتفاضة العديد من المواقف اللامعة في هذا المجال، أدّت إلى إسقاط كل محاولة لإطلاق جبهة أو تنسيقيّة ذات بعد قيادي. حرصت المجموعات التي “لحقت الشارع”، في خطابها، من خلال أفرادها على تأكيد كونهم لا يتحدّثون بإسم الثورة أو الثوّار، أي تأكيد التمايز بين توجهات الشارع ورأي المجموعة السياسيّة حتى في حالات التطابق، فقط لاستبعاد تهمة “القيادة”.
في المقابل، برزت أدوات للتحرّك والترويج للآراء والمواقف تعزز حالة اللاقيادة، حيث استبدلت المجموعات السياسيّة شكل الدعوة المشتركة إلى تحرك، بدعوة غير محدّدة المصدر تتم مشاركتها من قبل الجهات الفاعلة والترويج لها. بالطريقة نفسها تمّ الترويج للقرارات والمواقف ذات البعد السياسي أو “التكتيكي”: هل يستمر قطع الطرقات، كيف يتم التعامل مع استقالة حكومة الحريري، وغيرها من المسائل المفصليّة”. 
رفض القيادة والرومانسيّة اللذين أحاطا هذا الرفض خلال انتفاضة تشرين، دفعا إلى التساؤل عن خلفياتها تمهيداً للتفكير بأزمة قيادة المعارضة في ظل نظام معقّد كالنظام الذي يحكم لبنان. 
رفض القيادة يرتبط في الدرجة الأولى بالتجربة معها. وقبل تفكيك أي تجربة مع قيادات الحراكات، أي القيادات المعارضة، الأولويّة تبقى للتجربة مع قيادة الدولة، أي السلطة الحاكمة. ولبنان، خلافاً لدول جواره، يدار من قبل قيادات متنافرة ومتحالفة في الآن عينه، أو بكلام أكثر عملانيّة: تعدّدية القادة ووحدة القيادة. يستفيد النظام الحاكم من تعدّدية القادة لترسيخ الانفصال والعداوة بين أتباعهم، فيما يعود ليحصد ثمار هذه العداوة على طاولة القيادة، هنا توضع الكعكة ليتم تقاسمها. والقائد في هذه المعادلة لديه مواصفات، تحديداً مواصفات الزعيم. والدور الأبرز للزعيم هو تأمين الحماية لأتباعه. وما دام أتباع القائد الآخر يحفّزون مخاوف أتباع الأول، وشعورهم بالخطر، بالتالي فإن الحاجة إلى القادة تصبح أكثر إلحاحاً لحفظ التوازن. أما القيادة فتبقى بالنسبة إلى الأتباع، عبارة عن مفهوم ملتبس، يقوم على إتحاد أسباب ومنابع مخاوفهم التاريخيّة. هذا الالتباس لا يقف عند حد الأتباع، إنما هو ممتد ليطاول كل من يعيش في ظل هذه المنظومة ويتعامل يومياً مع تناقضاتها. هكذا يبدو السخط الدفين على مفهوم القيادة، أحد المشاعر العميقة التي ستتفق عليها غالبية عظيمة ممن ترعرعوا في ظل هذه المنظومة. والتجلّي الواضح لهذا الرفض يظهر أيضاً في الرفض الجذري لاحتماليّة نشوء ثنائية في الحكم تقوم على الحكومة (القيادة) والمعارضة (القيادة الرقيبة)، مقابل دفاع مستشرس عن “القائد/ الزعيم”. 
الوجه الآخر للتجربة مع القيادة، وهنا هي أكثر اتصالاً بالمعارضة، يتعلق بما يمكن أن يسمّى: آليات السقوط المظلي. من أخطاء الحركات المعارضة التي انسلخت عن العمل السياسي المنظم لجيل كامل، أنها عادت إلى هذا المضمار بهدف تغيير النظام عبر اسقاط رؤيتهم  على الرأي العام وإلزامه بها. أثار مثلاً تحرك النفايات عام 2015 مسألة القيادة بصورة فجّة. وقتها تحوّلت “الحملات” إلى قائد/ة الحراك، بمعنى توليها سلطة القرار وسلطة الأمر والنهي وتحديد التجمّعات وأخلاقياتها التي وصلت حد تخوين أعمال الشغب، من منطلقات أخلاقيّة بحتة. هذه التجربة أدت إلى استبعاد فئات إجتماعية من الشارع وإنكار حقّها بالمقاومة في وجه السلطة وقتها. كما أدت الى تكريس نهج تنافسي مضر قائم على الاستفراد. هكذا انتقلنا من مرحلة الشارع الذي يمنح المشروعيّة، إلى التحركات المفاجئة التي لا تعبر تبعاً لأي مؤشر عن رغبات الشارع. إنتقل الحراك من الاحتشاد الشعبي في الساحات، إلى تسابق وتنافس على تحرّكات مفاجئة هنا وهناك، استبعدت من هم خارج الحملات من الإنخراط في مقاومة السلطة، وحوّلتهم إلى جماهير. أيضاً، بقي هذا النهج بلا استراتيجيّة تبرره أمام “الجماهير” نفسها. 
لقد اختبر الشارع مفهوم القيادة من باب مصادرة الرأي والتوجّه، وهذا سبب وجيه جداً لرفض القيادة، وهذه بيئة محفّزة جداً لوجود أزمة قيادة من جهة المعارضة. غير أن الواقع اليوم هو أن إنتفاضة 17 تشرين أرست الكثير من الركائز التي ستساهم مستقبلاً في استعادة مفهوم القيادة من المستنقع الزعاماتي.  فهي من خلال تبنيّها اللاقيادة واللامركزية، فتحت الطريق لإسقاط العبارة الشهيرة: “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”. هذه الفكرة التي تنكر حقيقة أن قضايا الشعوب لا يمكن أن تنفصل عن بعضها، وأنها في الواقع تتقاطع وتتشابك بصورة معقّدة. وهنا لا بد من الإشارة إلى التحدي الذي تواجهه المعارضة لجهة ترتيب وتحديد نقاط الإتصال بين المعارك المتعددة، وذلك بعد سنين من تفتت المعارك ضمن مشاريع منفصلة تدار عبر المنظمات غير الحكومية. اليوم، الجمعيات الأهليّة والمعارضة كلها، مسؤولة عن تجميع الخريطة بصورة تساهم في رسم معالم الخطة الشاملة واستراتيجيّات المعارك ضمنها. وهذه جهة أولى عليها أن تتولى مسؤوليات قياديّة قبل التحوّل إلى قائد/ة. 
هذه الورشة تحتاج إلى تأطير مخرجاتها عبر تنظيمات سياسية حديثة، تتولى المواجهة مع الأحزاب التقليديّة والطائفيّة. وهنا أهمية اللامركزية حيث لم تعد التنظيمات المتمركزة في العاصمة فعّالة، فيما تميل كفّة الميزان لمصلحة التنظيمات التي ينتظم فيها الأفراد من مختلف المناطق وينشطون عبرها ضمن مناطقهم الجغرافية. هكذا، تبنى ضمانة أن لا يتعرّض أبناء الأرياف والأطراف للتهميش في عملية بناء نظام بديل. 
التقاطعيّة والإنتظام السياسي اللامركزي، يشكّلان ضمانة أساسيّة لحماية مطالب الفئات المهمّشة تاريخياً في النظام اللبناني، من التهميش والإعتداء على حقوقها مجدداً. لا تستوي مثلاً، أن تنشأ اليوم قيادة تقارب قضايا النساء مثلاً من باب المطالب. لا بد من أن تكون قضايا النساء ومطالبهن على الخارطة بالتساوي مع غيرها من المطالب، فيما النساء أنفسهن لا بد من أن يكنّ جزءاً من القيادة، حاضرات ووازنات في القرار. اليوم لا مجال لقيادة جامعة تغييريّة تستثني النساء. 
مسألة بقاء إنتفاضة 17 تشرين بلا قيادة له ايجابيّات حتميّة. فأيّ قيادة كانت لتنتجها الأيام الأولى من الإنتفاض؟ هل يتخيّل أحد غير زعامات جديدة في تلك المرحلة؟ أما اليوم، فإنّ خيار الزعماتية هو خيار هالك، في العاجل أم في الآجل، حيث أن غياب القيادة لهذه المدة المطوّلة من الحراك والغليان السياسي، أزاحا الوصاية عن العقول، وتحوّلت الحياة اليومية للأفراد إلى ورشة عمل سياسيّة مستمرة، تعوّض عقوداً من الفراغ في هذا المجال. اليوم، وصلت هذه الورشة غير المنظّمة إلى محلّ هي قادرة فيه على رسم معالم النظام الذي يُعادي الشعب بصورة واضحة وأكثر دقة: مافيوي، ميليشياوي، أمني، أبوي، ذكوري، طائفي، وأوليغارشي، سارق وناهب ولا يستحق ذرة من الثقة. هذه اللوحة أقرب إلى الحقيقة، لكنها ليست الحقيقة الكاملة بعد، حيث أنه مثلاً في الخطاب المعارض لا يظهر بصورة وازنة كم أن هذا النظام هو “عنصري”. وعلى الرغم من النواقص، إلا أن مساحات إخراجها إلى السطح باتت موجودة. لكن، كلما بات النظام أكثر وضوحاً في عين المعارضة، كلما كان إنتاج قيادة تتحمّل وزر إدارة المعركة ووضع استراتيجيّاتها، أكثرً إلحاحاً.