مقال جسور
صفقة القرن: خيارات المواجهة

* خبير في السياسات العامة وقضايا اللاجئين
ليست “صفقة القرن” جديدة أو مستجِدّة، بل هي متجدِّدة
منذ العام 1948 لم تألُ إسرائيل وحلفاؤها في الغرب جهداً لإنهاء حقّ الشعب الفلسطيني ببناء دولته، قبل أن ينكبّ النقاش على الحق بإقامتها، كما تهجير أهلها، قبل أن ينصبّ الجهد على عودتهم.
قامت إسرائيل على تدمير مشروع دولة فلسطين وتهجير شعبها أساساً، فهل يمكن تصديق ادِّعاءاتها منذ القرارين 181 و194 بأنَّ في الدولة واللاجئين مجال مفاوضة؟
في الفضاء الدّولي ثمة انسحابٌ كاملٌ للأمم المتحدة من أداءِ دورٍ في حلّ النزاعات أو الوقاية منها، لصالح تحوّل هذه المنصّة الدولية جهازاً أخلاقيّاً وإغاثيّاً ليس إلاّ. ويقتضي هذا السياق إعادة بحثٍ معمّق في مهمّات الأمم المتحدة وفاعليتها، خصوصاً في ما يُعنى بمسارات بناء السلام العالمي. وما الفشل في إقرار كلمة فصلٍ في مآلات الصّراع الفلسطيني – الإسرائيلي سوى خير دليلٍ على هذا الانسحاب.
في الفضاء الإقليمي، عدا تلك الخطوة الاستراتيجية، عنينا “مبادرة السلام العربية” (2002)، ثمّة معطوبيّة بنيويّة في قوة التأثير الذي كان من الممكن أن تتمتّع بها جامعة الدول العربية. ويقتضي هذا السياق أيضاً إعادة بحثٍ معمّق في مهمّات جامعة الدول العربية وفاعليّتها. وعندها يصِحّ توقّع استعادة التوازن مع إسرائيل وتحديداً حليفيها الولايات المتحدة وروسيا، إذ هي أوروبا على كثيرٍ من الترهّل بما يُعنى بالانخراط في مسار بناءِ سلامٍ فلسطيني – اسرائيلي غير منحاز.
في الفضاء الفلسطيني، ثمّة حاجة كيانيّة لاستعادة الوحدة بعيداً عن “أسلمة” محدودة، أو “براغماتيّة” منفَلِتة، لصالح مواجهة مدنيّة ديبلوماسيّة، وحتى ميدانيّة سلميّة موجعة لإسرائيل. بطبيعة الحال، هي فلسطين بصمود شعبها ونموذجيّة إصراره على النضال، قادرة على صوغ نموذج مقاومتها، بعيداً عن أيّ فرض من هنا، أو استيرادٍ من هناك. إفتراض محاذير الفرض والاستيراد يمتلكان مشروعيّة، بسببٍ من تاريخيّة استُخدِمت فيها فلسطين من كثيرين، ولم تزل، مطيّة بدل أن تكون القضيّة.
في الفضاء اللبناني، من المُلِحّ بمكان العودة إلى وثيقة “رؤية موحّدة تُجاه قضايا اللجوء الفلسطيني في لبنان”، والتي أنجزت فيها لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني مقدِّمات تأسيسيّة مع الأحزاب اللبنانيّة لمنهجيّة مقاربة متوازنة بين الإنساني والسيادي والديبلوماسي، بما في ذلك تعريف “التوطين” معادِلاً لـ”التجنيس” المرفوض، وانحيازاً لتحسين شروط حياة اللاجئين رفداً لتوقهم إلى العودة، وتمتيناً لدور وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينييّن (الأونروا)، وانخراطاً في ديبلوماسيّة هجوميّة من باب إعادة إنتاج قواعد الاشتباك الديبلوماسي والقانوني مع إسرائيل، بما يعرّيها استمراراً من لاأخلاقيّة ما مارسته وتمارسه اعتداءً على الشعب الفلسطيني، في ما يتعلّق بتأبيد التهجير ومنع العودة.
ما ورد في هذه الوثيقة – الرؤية يتطلّب صياغةً في خارطة طريق دولتيّة تنتهي فيها مساحات الديماغوجيا، والشعبويّة والفوبياويّة والإرتجال لصالح خيارات مواجهة علميّة وعملانيّة.
الإكتفاء بترداد شعاراتٍ مبنيّة على لازماتٍ تقليديّة غير مجدٍ. والأحرى بدايةً الامتناع عن اختراع اصطفافاتٍ متجدّدة في المزايدة والتخوين داخليّاً، إذ هذا يناقض روحيّة الوثيقة الجامعة ويعيدنا إلى مربَّع القضيّة – الورقة خدمةً لأجنداتٍ لا علاقة للبنان أو فلسطين بها. هنا بيت قصيد حماية بوصلة مواجهة وطنيّة متماسكة.
بوصلة المواجهة الوطنيّة لما ورد في “صفقة القرن” لجهة تصفيّة حقّ عودة اللاجئين من ضمن ما ورد من حلولٍ ثلاثيّة، عنينا إمّا بقاؤهم حيث هم، أو توطينهم في بلد ثالث، أو تأمين عودةٍ رمزيّة إلى دولة فلسطين المنزوعة السيادة، والمقطّعة الأوصال. هذه البوصلة الوطنية اللبنانية لا تستقيم سوى بإنشاء تنسيقٍ لبنانيّ – فلسطينيّ – عربيّ – أُمميّ.
قد يعتبر البعض أن هذه المعادلة غير واقعيّة، أو هي من باب الأوهام المتشنّجة، فيما الحقيقة أننا معنيّون بالغوص في مرحلة نقدٍ ذاتيّ لكلّ السياق الذي حكم مواجهة إسرائيل ديبلوماسيّاً في العقود السابقة، هذه المواجهة التي لم تُنتِج سوى خيبات.
الخيبات على تشظياتها، ليست حتميّة إن أحسنّا الإحتكام إلى منصّات مركبّة بين القانوني والسياسي والديبلوماسي والتواصلي، ولكن أيضاً الأكاديمي – الثقافي – التربوي، والإقتصادي – الإجتماعي – المالي. هذه المنصّات تستدعي تبنّياً من الانتلجنسيا الفاعلة في كلٍّ من مكوّنات الإطار التنسيقي الذي ذكرنا. الأهم من كلّ ما سبق السير باتجاه القبضِ على العقل الغربي لإجهاض رعونة ولاأخلاقية “صفقة القرن”.
القبض على العقل الغربي بديبلوماسيّة عامة يقودها لوبيينغ رشيق وذكي محدّدةٍ أهدافه بالمكان والزمان.
الأمم المتحدة بُنية مؤسِّسة في هذا اللوبينغ، ولا ضير في ضرب “حق النقض” بطرح انتفاءِ شرعيّته، وجمعِ داعمي العدالة الدوليّة في جبهةٍ معارضة.
المحكمة الجنائية الدوليّة، ومحكمة العدل الدوليّة بُنيتان مؤسِّستان أيضاً في هذا اللوبييغ. تسويق مبادرة السلام العربيّة تتوّج جديّة العرب وتُثبت صلف إسرائيل.
ما نحن بصدده النأي بالنفس عن مقارباتٍ خشبيّةٍ لحساب تدمير علميّ للروايات الإسرائيليّة الكاذبة التي اغتالت فلسطين وأهلها، بالإضافة إلى دعم خيار مأسسة دولة فلسطين، والدّفع باتجاه إعلانها كاملة العضوية في الأمم المتحدة، وخلوصاً إلى تزويد كلّ اللاجئين الفلسطينيّين بأرقام وطنيّة، ما يحسم هويّتهم المواطنيّة، مع حماية هويّتهم القانونيّة كلاجئين لهم الحق بالعودة الى أرضهم.
القبض على العقل الغربي… إنه خيارٌ بنيوي لإسقاط كل الصفقات واستعادة القضيّة!
القبض على العقل الغربي… إنه خيارٌ بنيوي لإسقاط كل الصفقات واستعادة القضيّة!