مقال جسور

ضمّ الضفة… وصفقة القرن: فرصة لمراجعة استراتيجيّة

ضمّ الضفة… وصفقة القرن: فرصة لمراجعة استراتيجيّة
* المسؤول السابق عن الإعلام المركزي لحركة “فتح” في لبنان

أنتج “حلّ” المسألة اليهودية في أوروبا، مسألة فلسطينيّة لم تكُن موجودة في بلادنا، ومذذاك ما زال الصراع بين الضحيّة اليهوديّة، وضحايا الضحيّة، متصاعداً بعيداً من خيار التسوية وفق حلّ الدولتين.

 
وفي سياق الصراع، قدمت الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة أولاً، حلاًّ يقوم على خيار الدولة الواحدة، الديموقراطيّة، العلمانيّة، قبل تبنّي خيار حلّ الدولتين ضمن ما أسمّاه المجلس الوطني آنذاك هجوم السلام الفلسطيني. 
 
في المقابل، نفّذت حكومات اسرائيل ثلاثة نماذج للحل، هي:
 
الأول: قام على نظرية الحركة الصهيونيّة القائلة “إنَّ فلسطين أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض”، التي دحضتها أبحاث المؤرخين اليهود الجدد، عندما أعادوا كتابة تاريخ نشأة اسرائيل، وكشفوا بالوثائق العبرية، حقيقة التطهير العرقي الممنهج للفلسطينيين، والمجازر، وقدموا رواية موثَّقة عن أسباب الموجة الأولى للجوء الفلسطيني، قبل وأثناء وبعد إعلان إستقلال إسرائيل، وهو يوم نكبتنا.
 
الفلسطينيّون النّاجون من التطهير العرقي في إسرائيل يتجاوز عددهم اليوم المليون ونصف المليون شخص، لكنّهم لا يملكون من أراضيهم العامة وأراضيهم الخاصة، إلاّ ما يوازي 2,6% من أصل 22 ألف كلم مربع، وهم لا يستطيعون العودة إلى منازلهم، ومزارعهم وهي على مرمى نظرهم.
 
الثاني: نفّذه رئيس الوزراء الأسبق الجنرال أرييل شارون، بما سمِّي “خطة فك الإرتباط الأحادي في غزّة”. فقد أصدر في 15/8/2005 أمراً بالإنسحاب من داخل قطاع غزّة، وإعادة الإنتشار حول حدوده، مع السيطرة على معابره وسمائه وبحره. ما جعل القطاع سجناً كبيراً لسكانه وعددهم نحو مليوني نسمة. 
 
الثالث: هو الحل الذي يسعى إلى تحقيق “حلم اسرائيل الكبرى” من النهر إلى البحر، في عودة لإحياء “مشروع آلون” لضمّ الضفة الغربيّة بعد حرب حزيران عام 1967. أما بنيامين نتنياهو فلا يوفّر فرصةً إلاّ ويسخّرها لتدمير خيار الدولتين، وإلغاء حق تقرير المصير الفلسطيني. 
 
ضمن هذا الإطار الإيديولوجي صاغ “فريق ترامب” مشروع “صفقة القرن”، تعبيراً عن لحظة التماهي بين الطرفين، لحظة لم يسبق أن حصلت مع الإدارات الأميركية السابقة. إنهم يتصرّفون بصفتهم صانعي أقدار، وإن إرادتهم ستتحقق حتماً. لكن هذا لم يعفِ الإدارة الأميركيّة، من اعتراض فريق في الإئتلاف الاسرائيلي الحاكم، الذي لا يقبل التخلي عن أي شبر أرض للفلسطينيين. فـ “صفقة القرن” تستثني من الضمّ مساحة المدن الفلسطينية، وما يلزمها من طرقات لمواصلاتها، وليس لتواصلها. ويرى هذا الفريق، أن التراجع عن الضمّ الشامل ينطوي على إمكانيّة قيام دولة فلسطينيّة، ما يُشكّل خطراً وجوديّاً عليهم!!. لذلك سارع نتنياهو إلى طمأنتهم بالتصريح، أن على الفلسطينيين القبول بالسيادة الأمنية المطلقة على المدن والأراضي التي لن يشملها الضمّ.
 
بهذا النموذج لفرض حلّ من طرفٍ واحدٍ، ينقض الرئيس الأميركي الشرعيّة الدوليّة التي تأسست قبل خمسة وسبعين عاماً، مع لحظة إعلان ميثاق الأمم المتحدة. كما ينقض أيضاً القرارات الدوليّة ذات الصلة بالإحتلال، والتوسُّع وسلب الأراضي من شعب راسخ في وطنه عبر الزمن رغم النكبات.
 
أما وقد أنجزت اسرائيل سيطرتها على جغرافيا فلسطين، فهل تستطيع السيطرة على الديمغرافيا الفلسطينيّة؟!
 
في هذه الحلبة تختلف الموازين، لأن نظرية “أرض بلا شعب” سقطت إلى غير رجعة، بدليل أن تجربة الحكم العسكري للناجين من التطهير العرقي في إسرائيل، لم تنجح في تدمير الهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة داخل الخط الأخضر. فقد شهد المجتمع الفلسطيني هناك، نمواً وتطوّراً في المجالات كافة، بالتفاعل مع تطوّر ونمو الهوية الفلسطينيّة في غزّة والضفة ودول الشتات.
 
لذا نجرؤ على القول إن مقاربة حق تقرير المصير للفلسطينيين، ليست بيد أي دولة عظمى أو قوّة إقليميّة، لأنّ شعب فلسطين حقيقة صلبة وقاسية، ولأن جغرافيا فلسطين ليست تعبيراً غامضاً أو مساحة مجهولة. كما أن المخزون الكفاحي والقدرة على الصمود ليسا مجرّد شعارات لفظيّة، وهو ما يرفع منسوب الثقة الشاملة بالذات.
 
ثقة لا تخفي افتقاد القيادة الفلسطينية، زمام منظومة قوّة ميدانيّة، وعجزها عن التعبير العملي عن رفضها لممارسات الضم والمصادرة والتهويد. إلاّ أن الموقف الفلسطيني عموماً “الرسمي والشعبي” معاً، يعمل وفق آليات مختلفة، ولا يوفّر فرصة لبناء نواة صلبة هنا وهناك، ودحرجتها على طريقة كرة الثلج، وكذلك التحلّي بالصبر لتجميع عناصر القوّة الممكنة، لإطلاق الحيويّة السياسيّة، وخوض المعركة بالقدر المستطاع.
 
ذلك لأنّ الفعل الفلسطيني المقاوم، فعل فردي وجماعي معاً، موضوعي وإرادي معاً، عفوي ومنظّم معاً، له أجندته ومواقيته. هو فعل توجهه طبيعة الحياة اليوميّة، حيث يتحرك الفلسطيني في فضاء إحتلالي واستيطاني ثقيل الوطأة، يتطلّب من كل فرد منه مقاومة داخليّة في كل لحظة من أجل التوازن الإنساني أولاً، إلى أن يصنع الحدث من خارج التوقع. وهذا يفسر ظاهرة العجز الإسرائيلي عن الحسم في أي ملف من ملفات الصراع مع الفلسطينيين. عجز لا يتناسب مع القوّة المفرطة الإسرائيليّة. عجز يمنع إسرائيل من الإنتصار كما تشتهي.
 
ما تقدّم، يشير إلى أهميّة إعلان السلطة الفلسطينيّة مؤخراً عن بناء ائتلاف عالمي يضم 192 دولة تعبّر عن رفضها ومناهضتها لأي خطوة ضمّ تنوي إسرائيل القيام بها.
هذا يوفّر قاعدة عمل سياسي وديبلوماسي مؤثرة، كما أن إعلان قادة حركتي “فتح” و”حماس” عن الاتفاق حول وحدة الموقف الميداني لمواجهة ضمّ الأراضي، عِبر المقاومة الشعبية السلمية، يشكل أيضاً ركناً صالحاً للبناء عليه، لا سيما وأن الإعلان ساهم في تغيير المناخ الفلسطيني الداخلي إيجاباً.
 
صحيح أن وحدة الموقف الميداني لا تعني أكثر من السير منفردين، والتصويب على الهدف المشترك، لكن هذه الفاتحة تعزّز بناء قواسم وطنيّة مشتركة. بعيداً من الصراع الداخلي العنيف، ولطالما أنّ الاتفاق على المقاومة السلميّة نهج، فإن إرادة الناس واستجابتهم ليستا منخفضتين، شرط تأمين المناخ الديمقراطي في الضفة وغزّة معاً، فإن لم يكن الفعل المقاوم ديمقراطياً يفقد معناه وتنحسر جدواه. لذا، يمكن تحويل هذه الهجمة الأميركيّة – الإسرائيليّة إلى فرصة تستدعي مراجعات وطنية شاملة من أجل استخلاص إستراتيجيّة جديدة.