مقال جسور

!علاقة إسرائيل مع فلسطينيي الداخل بين المد والجَزْر

!علاقة إسرائيل مع فلسطينيي الداخل بين المد والجَزْر

جوني منصور* 

يبدو أنّ تداعيات أزمة “الشيخ جراح” قد تجاوزت حدود هذا الحي المقدسي الرازح تحت الاحتلال الاسرائيلي منذ العام 1967 لتصل إلى عدد من المدن والقرى الفلسطينية في الداخل الفلسطيني(فلسطين 48)، وبوجه خاص المدن التي تُعرّف على أنّها “مدن مختلطة”، والتي يسكنها اليهود والعرب. اليهود فيها هم الأغلبية، بعد أن كان معظمها عربياً صرفاً حتى عام النكبة. من تداعيات هذه الأزمة تلك الهجمات والاقتحامات التي قامت بها مجموعات يهودية يمينية متطرّفة جداً تُطالب بطرد العرب وتنادي بـ “الموت للعرب”، كما نادى النازيون يوماً ما بصيغة “الموت لليهود”. إذ تنظمت حافلات من المتطرفين من المستوطنين ومن سكان البلدات اليهودية من اسرائيل، وهاجمت عددًا من الأحياء العربية تحت حراسة الشرطة الاسرائيلية وقوى من الجيش أيضاً. وهذا ما فضح على المكشوف تواطؤ الأجهزة الأمنية الاسرائيلية وبقرار حكومي غير مُعلن (لأن هذه الأجهزة لا تتحرّك إلاّ بقرار من المستوى السياسي، أي الحكومة) مع الجهات المتطرفة. وبيّنت هذه التغطية عن خلل في منظومة العلاقة بين “الدولة” كسلطة حاكمة ومُسيّرة لحياة مواطنيها كافة، وبين العرب الفلسطينيين في اسرائيل والذين يُشكلون قرابة 23% من مجمل السكان في اسرائيل. هذا الخلل ليس وليد الساعة. أي إنه غير مرتبط بتداعيات أزمة حي الشيخ جراح فقط. إنّما تعود جذوره إلى صُلب الفكر الصهيوني ثم الاسرائيلي الرافض كليًاً لقبول بقاء ووجود من بقي من الشعب الفلسطيني بعد النكبة الفلسطينية في 1948 على الأرض الفلسطينية، التي اصبحت تحت سيطرة دولة اسرائيل التي أُنشئت في العام ذاته.

عِلمًا أنّ فلسطينيي الـ 48 هم مواطنون في اسرائيل. ولكن مواطنتهم ليست كاملة. بمعنى، أنّ الدولة وزّعت عليهم هويات وفرضت عليهم قوانينها، بل سنّت قوانين جائرة للحدِّ من حرياتهم وحقوقهم. إلاّ أنّ مواطنتهم لا تَرقَى إلى مستوى مواطنة اليهودي الذي تزعُم اسرائيل أنّه صاحب حقّ كامل في أرض آبائه وأجداده التي يعيش عليها، ولا حقّ لغيره من الشعوب فيها. وهذا هو جوهر “قانون القومية للشعب اليهودي” (يُسمى اختصاراً بـ “قانون القومية”) الذي شرّعه الكنيست الاسرائيلي في 2018.

عملياً، يَعتبر هذا القانون أنّ مَنْ هو غير يهودي ليس مواطناً كاملاً، وحقوقه منقوصة تاريخياً وفعلياً. وبالتالي قد تستطيع الدولة في حالاتٍ معينة سحب المواطنة منه وتجريده من حقوقه المدنية، بلوغاً إلى درجة طرده من الدولة باعتباره “مواطناً غير مرغوب فيه”. أمّا انعكاسات قانون القومية أعلاه على السلوك الجماعي والفردي للاسرائيليين، فتمّت ملاحظته من خلال اعتداءات واقتحامات المتطرّفين للأحياء السكنية الفلسطينية في المدن المختلطة، ومحاولة إيذاء السكان فيها وإلحاق الضرر بممتلكاتهم الخاصة، إلى جانب الممتلكات العامة التي لم تسلم من عدوانيتهم. وهنا تتوضح سياسات الدولة تجاه من تعتبرهم ولو رسمياً مواطنيها، أي العرب الفلسطينيين من عدم توفير الحماية لهم ولممتلكاتهم، وغياب مشاريع تضمن المساواة في الحقوق والعدل المصحح، وغير ذلك من امتيازات توزعها الدولة على مواطنيها اليهود لكونهم مواطنين فيها.

إذن، بيّنت أحداث شهر ايار 2021 والتي يُسمّيها البعض تداعيات الشيخ جراح ليس فقط عن خلل مظهري في منظومة العلاقة بين الدولة وبين الفلسطينيين فيها، بل عن شرخ اجتماعي بُنيوي مقصود تعود جذوره إلى أُسس تكوين الحركة الصهيونية وطروحات مفكريها الكبار الذين يُعرفون بـ “آباء الصهيونية”. وهم الذين وضعوا أُسس ترجمة تصريح بلفور من 1917 إلى واقع ملموس على هيئة كيان سياسي هو دولة اسرائيل، بالتعاون والتواطوء مع بريطانية الدولة المنتدبة على فلسطين. وهؤلاء أنفسهم وضعوا وثيقة استقلال اسرائيل التي توفر مساحات من حرية العبادة والسكن والعيش دون تفرقة بين المواطنين للوهلة الأولى.

الواقع التاريخي لهذا الكيان المصطنع والذي اعتمد مؤسسوه على تطبيق خطوات فعلية لتأسيسه تمثّل بطرد سكان فلسطين اصحاب الارض الاصليين وتوطين مستعمرين مكانهم. أمّا من بقي من الفلسطينيين، فتمّ وضعه لمدة عشرين عاماً تحت الأحكام العسكرية، بالرغم من اعتباره مواطناً في الدولة. وهذا يعني اخضاع الفلسطينين في اسرائيل لمراقبة ومتابعة مستمرة، وقمعهم الدائم كي لا يعلنوا عصياناً على الدولة التي فُرضت عليهم.

هذا الواقع التاريخي الذي مرّ عليه عقود من الزمن مستمر إلى الآن بأشكال مختلفة من منطلق اعتماده على قواعد الفوقية والتفرقة العنصرية. وبالتالي تتمثل التفرقة العنصرية من خلال سياسات الفصل العنصري المُطبّقة على أرض الواقع. فالمدن التي أشرنا إليها آنفًا كمدنٍ مختلطة ليست كذلك بالمرّة. هي مدن يعيش فيها شعبان منفصلان، بحيث أنّ لكلّ واحد منهما احياؤه ومناطقه الخاصة به، ومؤسساته التي تخدمه. الحيّز الوحيد الذي يُمكن أنْ يلتقي به الشعبان هو الاقتصادي فقط. حتى العلاقات في الجامعات والمعاهد العليا التي يمكن اعتبارها حيّزات مختلطة لا تدفع الى الاختلاط والعمل المشترك. ويظهر هذا من خلال وجود نقابتي طلاب. واحدة لليهود وأخرى للعرب الفلسطينيين في كل جامعة وكلية.

إذن، المنظومة هرمية الشكل والفعل. حيث أنّه من الواضح السيطرة من فوق على قاعدة الهرم وتسييره وفقاً لأجندات سياسية تتجاوب مع فكرة الإبقاء على الهيمنة اليهودية في الدولة. وفعلياً تقوم الدولة بتطبيق ممارساتها بطرق تضمن بواسطتها إحكام قبضتها على أعناق المواطنين الفلسطينيين فيها.

انتهت هجمات واقتحامات المستوطنين على الأحياء السكنية العربية في المدن المختلطة، وعدد من البلدات الفلسطينية في الداخل الفلسطيني بصورة سريعة بعد أيام قليلة من بدايتها. وشبهها بعض المتابعين بـ “يوم البلور” في 1938 في المانيا في الفترة النازية. ولم تتوقف إلاّ وسط اعتقالات لمئات من الشباب الفلسطيني، تمّ تقديم لوائح اتهام بحقّ بعض منهم، فيما لم تُقدَّم أي لائحة اتهام بحقّ أي مستوطن من المهاجمين، بالرغم من أنّ كاميرات الشوارع والمحلات رصدتهم. وهذه وضعية بعثت من جديد رسائل ترميزية للفلسطينيين في الداخل، في أنّ سياسة العصا والجزرة بيد الدولة وليست بيد آخرين، وتقوم بتفعيلها متى تشاء وكيفما تشاء. ولهذا، فإنّ هذه الأزمة لا تعني نهاية المد والجزر في العلاقة بين الدولة (دولة اسرائيل) وبين من تعتبرهم نظرياً مواطنيها الفلسطينيين، لكنها حلقة أخرى ستليها غيرها.

 * مؤرخ وأكاديمي فلسطيني من حيفا