مقال جسور
علـى طـريق الـحقـوق والـواجـبـات

أسـرة التحرير
منذ إنشائها في 2005، وإيمانًا منها باستمرارية المرفق العام، تواصل لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني السعي لتحقيق المهمة التي أنشأت لأجلها وحددت بـ معالجة المسائل الحياتية والإجتماعية والإقتصادية والقانونية والأمنية داخل المخيمات وللفلسطينيين المقيمين في لبنان بالتعاون مع وكالة “الاونروا”، بما يشمل تطوير السياسات العامة المتصلة بقضايا اللاجئين الفلسطينيين، ومعالجة ملف السلاح الفلسطيني في ضوء توافقات لبنانية – فلسطينية، مع الأخذ بالاعتبار التغيرات الكبيرة التي حصلت منذ ذلك التاريخ على الصعيدين الداخلي، وخصوصاً الأزمة متعددة الوجوه التي تضرب لبنان، والخارجي، الإقليمي والدولي، لما له من تداعيات على المنطقة ككل، وعلى القضية الفلسطينية وعملية السلام وقضايا اللاجئين وعيشهم في الدول المضيفة، بشكل خاص.
التحدّي الرئيس، اللبناني – الفلسطيني المشترك، ليس في تكرار الشكاية والتذمّر من الأزمات والتحديات والتعقيدات، بل في المواجهة الرؤيوية لاجتراح مسارات للحلول. فإن لم يكن بالمستطاع الحلّ، فبالحدّ الأدنى، التخفيف من تداعيات الانهيار، وهو في أحد وجوهه عالمي الطابع. وهنا نقطة الارتكاز، إلى عدم التسليم بالظروف التي تدفع إلى اليأس وحشر الخيارات، اللبنانية أو الفلسطينية، بين فكّي السيّيء أو الأسوأ.. وكل ذلك يستوجب جرأة في التفكير والنقاش والطروحات لإخراج الحلول من دائرة الإمكان إلى حيّز الفعل المتجسّد.
لذلك، وتأسيساً على انجازات سابقة، مثل “التعداد العام للسكان والمساكن في المخيمات والتجمعات الفلسطينية في لبنان” (21 كانون الاول 2017)، وإطلاق “رؤية لبنانية موحدة لقضايا اللجوء الفلسطيني في لبنان”، (20 تموز2017)، ثمة قضايا حيويّة وضرورية تنتظر المبادرة، سواء على صعيد التشريعات أو التنظيمات الادارية المتعلقة بشؤون اللاجين وحقوقهم وعيشهم، وأمور أخرى مطلوبة، في المقابل، من الفلسطينيين في لبنان، تعزّز الاستقرار وتنزع فتائل التوتير، لكنها أيضاً تنطلق من المصلحة الوطنية اللبنانية، وتستجيب لمخرجات الحوار الوطني والأمن القومي اللبناني، وكِلا المسارين يصبّان في سياق تحصين الداخل اللبناني، وتماسك مجتمعه، وتعزيز اقتصاده.. في انتظار مرحلة الانتظام العام في المنطقة.
تسعى لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني منذ تولي الدكتور باسل الحسن لرئاستها في شهر تشرين أول/اكتوبر 2021، إلى العمل على مسارات عدّة في متابعة الملف الفلسطيني بكل تشعباته في لبنان، ومنها:
- طرح رؤية استراتيجية مرحلية (2022 – 2025) رباعية الأبعاد، سياسية-ديبلوماسية، أمنية، حقوقية، وإدارية (الحوكمة وإدارة الخدمات)، تتصل بمختلف جوانب الوجود الفلسطيني في لبنان، والقضايا العالقة أو التي تحتاج تطويراً أو تلك المتصلة بالأمن الوطني اللبناني.. وتعمل على مناقشتها مع المعنيين بملف اللجوء والشركاء الدوليين.
- يترأس لبنان منذ مطلع 2022 اللجنة الاستشارية للأونروا (أدكوم)، وقد استضافت بيروت اجتماعات اللجنة في حزيران (يونيو) 2022 بمشاركة ممثلين عن 33 دولة وجهة دولية، ويعمل لبنان، بعد نجاحه في استضافة الاجتماعات وقرار التمديد للبنان في رئاسة اللجنة لسنة بالاجماع، على بلورة خطة استراتيجية لتطوير عمل اللجنة الاستشارية بما يخدم قضايا اللاجئين، ويحسّن من أداء وفاعلية “الأونروا”، ويعزز شراكة الدول المضيفة للاجئين في صناعة واتخاذ القرار والتخفيف من أعباء وتداعيات اللجوء على اقتصادات هذه الدول.
- تسريع العمل الإداري لإنجاز ملفات عالقة أو مجمّدة وتتصل بحياة اللاجئين في أكثر من مخيم، ولا تحتاج إلى قوانين وتشريعات لكنها تنعكس بشكل مباشر تسهيلاً لقضايا حياتية كثيرة، كمخيم نهار البارد، وبطاقة التعريف الخاصة باللاجئين، كما تمّ إنجاز أقسام في مستشفيات داخل المخيمات، ومشاريع أخرى تتصل بالمياه والكهرباء.
- فتح حوار شفاف، ومتعدد الأبعاد، مع الجهات المعنية بقضايا اللاجئين، وتعزيز التنسيق ما بين الجيش والأجهزة الأمنية اللبنانية مع الجهات الفلسطينية لصون أمن المخيمات ومحيطها، لمنع الاهتزاز الأمني بفعل تسلل مغرضين لضرب الاستقرار والتواصل اللبناني – الفلسطيني، وهو ما تجلى في عدد من المحطات أيضاً.
- تابع لبنان الحرب الإسرائيلية على غزّة (6-8 آب 2022) وواكب الاتصالات العربية والإقليمية والدولية التي جرت لتهدئة الأوضاع، خصوصاً في ظل مخاوف من تمددها إلى لبنان على خلفية تهديد وزير الحرب الإسرائيلي بيني غانتس باستهداف قادة “حركة الجهاد” في لبنان ودول أخرى. هذه الجهود كانت مدار بحث بين رئيس رئيس اللجنة الاستشارية للأونروا، رئيس لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني الدكتور باسل الحسن، في اتصال هاتفي تلقاه من المنسق الخاص للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط، تور وينسلاند بتاريخ 8 آب 2022، نوّه في خلاله بجهود لبنان كما تمّ الاتفاق على توسيع دائرة التشاور.
- اللقاءات الدورية لرئيس لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني مع فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وهيئة العمل الفلسطيني المشترك، ومع مدير شؤون وكالة “الأونروا” في لبنان بالوكالة منير منة، لمناقشة مسارات معالجة القضايا سواء المتعلقة بمعيشة اللاجئين الفلسطينيين ذات البعد الانساني والاجتماعي أو المتعلقة بتحصيل الحقوق الاجتماعية والانسانية. وقد استضافت السرايا الكبيرة في 22 أيلول 2022، اجتماعين تنسيقيين، الأول بين فريق العمل اللبناني لمعالجة قضايا اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وهيئة العمل الفلسطيني المشترك، والثاني بين هيئة العمل الفلسطيني المشترك ومسؤولين من وكالة (الأونروا) خصص لبحث قضايا متصلة باللاجئين الفلسطينيين ومشروع الأرشفة الالكترونية. وأكد بيان عن اللجنة على “متابعة كل الملفات المطروحة أو العالقة في الوزارات المعنيّة ووضعها قيد المعالجة”، وشدد على “تأكيد الرعاية والحرص اللبناني على إنجاح مشروع الأرشيف الفلسطيني، وأولوية إخراجه بطريقة توثيقية علمية تخدم مجتمع اللاجئين كجزء من ذاكرتهم وإرثهم الاجتماعي والثقافي والعائلي التاريخي”.
- متابعة ظاهرة “قوارب الموت” التي تقلّ مئات من المهاجرين بشكل غير شرعي من السواحل اللبنانية قاصدة الشواطئ الأوروبية بشكل غير شرعي وغير آمن، التي تكاثرت في الفترة الأخيرة وآخرها غرق مركب قبالة شواطئ طرطوس السورية في 23 أيلول 2022، وعلى متنه 150 شخصاً، لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، وراح ضحيته نحو 100 شخص بينهم عشرات النساء والأطفال، وقد أكدت لجنة الحوار في بيان على أهمية مكافحة هذه الظاهرة “بكل صورها وأشكالها وأبعادها”، مذكرةً بـ “مخاطرها على المجتمع والأمن والاستقرار الداخلي وعلى الأمن الإقليمي بما يستوجب معالجات متعددة المستويات، داخلية وعلى مستوى الشركاء الدوليين”.
الحقوق والواجبات
يتكرّر الحديث بين حين وآخر، حول ضرورة منح اللاجئين الفلسطينيين في لبنان حقوقاً مدنية هم بحاجة إليها، في مقابل تكرار الهواجس التي تربط هذه الحقوق بقضايا سياسية ومخاوف أمنية وديموغرافية تتصل بالتأزم التقليدي الدائم في الحياة السياسية اللبنانية من جهة، وبالذاكرة الموجوعة التي تسببت بتمزقات وندوب في النسيج اللبناني خلال فترة الحرب؛ ما يجعل من الحديث وردود الفعل حوله تكراراً يدور في حلقة مقعّرة، خصوصاً في ظل الأزمة الكبيرة التي تضرب لبنان والتطورات المتسارعة على مستوى المنطقة، وكل ذلك يفترض البحث عن مقاربات جديدة تعمل لجنة الحوار على تقييمها.
هذه الإشكاليات سبق أن طُرحت في نقاش نوعي وهادئ ورؤيوي في ورشة نقاش أكاديمية نظّمتها لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني بالتعاون مع معهد عصام فارس للسياسات العامة والسؤون الدولية في 13 حزيران /يونيو 2022 تحت عنوان “اللجوء الفلسـطيني في لبنان: السياسات / الحقوق / الهواجس”بمشاركة باحثين وخبراء لبنانيين وفلسطينيين وأجانب، ومشاركة فاعلة من رئيس الرابطة المارونية السفير خليل كرم، خلصت إلى توصية بطرح “شِرعة الحقوق والواجبات للاجئين الفلسطينيين”، كنصّ رؤيوي فلسفي اجتماعي يتجاوز السجالات السياسية المكررة، ويكون مادة للنقاش العام تؤسّس لمقاربة جديدة لموضوع الحقوق والواجبات، مع الأخذ بالاعتبار المسلّمات الدستورية، والأمن القومي للبنان والحاجات الاقتصادية له. وقد أشار الدكتور الحسن للشرعة، لأول مرّة، خلال لقاء مه هيئة العمل الفلسطيني (22 أيلول 2022) إلى إنجاز مسودة الشرعة وفلسفتها، وأنها ستطرح للنقاش مع المعنيين.
هل ما أنجز يلبي الطموحات؟ في حوار مع “النهار العربي” بتاريخ 9 آب 2022، قال رئيس لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني: “حققنا، نحن والفلسطينيين في لبنان، تقدماً جدياً في ملفات عدّة.. ثمة مسائل حلّت، وأخرى في طريقها للحلحلة، وتعلن في الوقت المناسب”. ثم إن ما يزيد من أهمية التمسك بالمزيد من الانجاز هو الأصداء الإيجابية لدى الشركاء في لبنان والخارج حول أداء لجنة الحوار وعلى أكثر من مستوى، منها مثلاً البيان الصادر عن اللقاء الوداعي بين السفير البابوي في لبنان مع الرابطة المارونية (11 آب 2022) الذي نوّه بـ “ما تقوم به لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني بالتنسيق مع البطريركية المارونية والرابطة المارونية”، واصفاً إياه بأنه “تطور مفيد”.
ما سبق، لم يكن ليكون لولا القضية المركزية، وهي الحاضرة أبداً مهما تعددت العناوين والشعارات، فسياسة الحكومة اللبنانية، والإجماع الوطني اللبناني، هو التزام الانحياز للحق الفلسطيني والشرعية الدولية إلى حين إعلان الدولة الفلسطينية وتحقيق العودة، إذ لا مصلحة وطنية للبنان في التطبيع مع إسرائيل، ولا مصلحة وطنية له بإبقاء ملف اللاجئين الفلسطينيين محل تأزّم كامن، لا اليوم ولا غداً، وطالما أن منطقة الشرق الأوسط لاتزال بلا تسوية شاملة تنحو بانجاه بلورة نظام إقليمي متفق عليه عربياً وإقليمياً ودولياً.
لا يمكن بناءُ مستقبلٍ مستقرّ بالتأسيس على الشكوك والتردد، والخوف المتبادل، والذاكرة الموجوعة، ولا على الانتقائية في النظر إلى ندوب التاريخ وتحديات الحاضر وطموحات المستقبل، لأنها عوائق تحولُ دون تبلور رؤى وخطط لصناعة ظروف ملائمة أو تطوير استراتيجيات مشتركة قادرة على تحسين حياة شعوب هذه المنطقة.. إلى حين الوصول إلى حلول سياسية كبرى تحترم الحقوق المشروعة والشرعية الدولية، وقبل كل ذلك وبعده تحترم حقوق الإنسان.. وإلى حينها سنبقى نصنع جسور التواصل والحوار سعياً لغدٍ أفضل.