مقال جسور
فلسطينيّة لبنانية المسكن

* صحافية فلسطينية
يقسّم الفلسطينيون جغرافياً إلى قسمين: فلسطينيّو الداخل وفلسطينيّو الشتات. وفي الشتات، وفي لبنان تحديداً، فالأمر احتاج إلى أكثر من إجتياح وحرب مخيمات وصورة تخويفيّة، لكي يختار قسم من اللاجئين العيش خارج المخيم أسوة بآخرين، أولئك الذين لم يسكنوا المخيمات حتى في زمن النكبة .
عائلتي ولأسباب متعلّقة بها، سكنت ثلاثة بيوت مختلفة على مدار ثلاث وعشرين سنة، لم يكن أحد منها في مخيم من المخيمات الإثني عشر. نتيجة لذلك، يمكنني القول أن الأحكام المسبقة التي ترسم في أذهان من حولي سواء كانوا فلسطينيين يسكنون المخيم، أو لبنانيين يعيشون في الشارع نفسه أو يرتادون المدرسة ذاتها، عادلة في الكثير من الأحيان ..
بدأت أدرك مدى اختلافي عن إبنة جارتنا التي اعتدت أن أشاركها اللعب عندما ازدادت تعليقاتها الساخرة من لهجتي، رغم أنه كان من الصعب عليّ إكتشاف الفوارق. لكنّ تضخيمي لحرف الدال في كلمة بندورة لم يكن يمر مرور الكرام من دون أن تتبعه أسئلة كثيرة مثل: من أين أنتِ؟ آه فلسطين.. لماذا أنتِ هنا إذاً؟.. هل ستنتقلين إلى هناك قريباً؟.
اليوم، وعوضاً عن سؤال الإنتقال، صرت أُسأل إذا كنت أذهب في الإجازات إلى عكا، وكيف هي المسابح هناك. جارتي التي ألتقي بها في مصعد البناء الواقع في منتصف عاصمة المقاومة بيروت يومياً، تعرف أن عكا تقع على الساحل لكنها لا تعرف أنها محتلة منذ 72 عاماً.
صداماتي مع المجتمع اللبناني حولي لم تتوقف على كمّ الأسئلة التي قد تحث المرء على الشعور بأنه فضائي. فمجرد اختلافك مع أحد السكان على موقف السيارة قد يدفعه إلى طردك من بلده، وطبعاً جملة “إنتو الفلسطينيي خربتو البلد”، كان عليها أن تقفز وسط كل حديث ولو كان مزاحاً. الوجود في مجتمع لبناني هو في حد ذاته تحدٍ يومي. وكأن شعور عدم الإنتماء الذي أشعره لا يكفي، تأتي كلمات مثل إحنا، وأنتو عنا، وعندكن، لتزيد الهوّة وتثبت أن ما تفرقه سايكس بيكو لا تجمعه جيرة 12 عاماً .
مجتمع المخيمات كان أكثر ترحيباً حين قررت دخول هذا المكان الذي يخيّل لمن هم خارجه أنه مغلق، مظلم، ومليء بالغموض، كمتطوّعة في أحد المراكز التي تهتم بالصحة النفسية للأطفال. عاد السؤال ذاته هنا ولكن لأهداف أخرى. فـ”أنت من وين؟” في المخيمات تستخدم عادة لإيجاد صلة قرابة أو لتصنيفك في إحدى الحارات. نحن مسجلون في مجد الكروم، رغم أنني اكتشفت مؤخراً أننا في الأصل من عكا المدينة، لأتفاجأ أن شجرة العائلة فعلاً مسجلة في رابطة الأهالي في المخيم، لكن من دون تفصيلين صغيرين: إسمي وإسم أخي باعتبار أننا ولدنا ونسكن خارج المخيم ولا يحق لنا أن نستفيد من خدمات الرابطة التي لا أعتقد أنها موجودة أصلاً. وهنا تبدأ القصة من جديد: من يسكنون خارجاً يعتقدون أن المخيم مظلم، فيما يعتقد أهل المخيم أن من يسكن خارجه يسكن في النور.
أنا أدرك تماماً أنني لم ألعب في الزواريب الضيقة ولم يقع على عاتق أمي يوماً أن تقلق من موتي بسبب شريط كهربائي، لكن هذا لا يجعل جدّي أرستقراطياً ولا يكسبني هوية أصغر حجماً من بطاقتي الزرقاء. وأعتقد أن سبب هذا الحكم هو الكلمات اللبنانية والأجنبية التي تداخلت في لغتي المحكية، لذا توصلت إلى استنتاج أن لهجتي غير مقبولة من الطرفين، إلى جانب تعجّبي المستمر من تفاصيل قد اعتادوا عليها مثل حقيقة أن جميع سكان المخيم الواحد الأصليين يعرفون بعضهم البعض، حتى أن هذه المعرفة قد تشمل المخيمات الأخرى، فتفرح أم سامر لنجاح أحفاد حاجة تسكن في مخيم الرشيدية، فيما يقصّ علينا زوجها ذكريات تقاسمها مع أشخاص لم يعد يذكر أسماءهم، لكنه قادر على إيجاد بيتهم في نهر البارد رغم التغييرات التي طرأت عليه بعد الحرب.
كوني قد تكيّفت مع العالمين الآن، لا يجعل التحدي أقل تعقيداً. كلاهما يرفضانني ويريدانني في وقت واحد. لكنني أدركت أن مكان عيشي لم يحدد يوماً من أنا، ولو أنني خلقت في المخيم لكنت ولدت فلسطينية تنتظر. ولدت لأبحث عن معنى هويتي ثم لأحبّها وأكون سفيرة لها في مجتمع آخر. وأيقنت أنه من الطبيعي أن لا يشعر أي لاجئ بإنتماء إلى مكان حتى ولو كان بيته أو مخيمه، فللاجئ وطن واحد سيعود إليه ولو بعد حين.